قراءة موجزة لرواية د. زهدي الداوودي الجديدة..يستذكر بنمطية سرد الماضي شقاء يوميات أسرة فلاحة

Wednesday 11th of January 2017 06:13:53 PM ,

عراقيون ,

حكيم نديم الداوودي
في بيروت صدرت رواية تحولات للروائي والقاص العراقي الكوردي د. زهدي الداوودي روايته الجديدة تحولات 2007، والتي تعتبر جزءا ًمتمماً لثلاثيته الرائعة المطولة والتي أسمته بثلاثية وادي كفران وتشمل على رواية أطول عام 1994، زمن الهروب1998، تحّولات2007. الرواية كتبت بذاكرة متوقدة وكأن صاحبها لم يغادر أجواء المكان الذي وردت فيه تلك التفاصيل الدقيقة لحياة أسرة فلاحية كوردية،

والتي تعكس من خلالها حياة وأسر ومجاميع بشرية أخرى في تخوم المنطقة، الذين عاشوا مأساة الحروب وويلات الحياة الصعبة وقساوة الظروف السياسية المتقلبة حسب تقلبات الأنظمة المتعاقبة في تسيير قطار السياسة آنذاك.

أجواء رواية تحولات هي لاتختلف عن أجواء روايتي الروائي زهدي، أطول عام، وزمن الهروب. ولكل رواية من تلك الروايات الثلاث وحسب ملاحظة الكاتب نفسه عالمها الخاص المستقل. وكما أنه ليس من الضرورة أن يقرأ القارئ الروايات الثلاث كلها، ومن المستحسن إن أمكن الأطلاع عليها جميعاً أن أراد أن يكوّن لنفسه صورة شاملة عن حياة تلك الأسرة التي لاوجود لها الاّ في ذهن الكاتب. أستدلُ في هذه المحاولة الى رأي الكاتب والصحفي جاسم المطير لفهم واقع الرواية، والى معرفة الذروة الكاشفة عن الزمان والمكان في النص الروائي. حيث يقول- تقف ثقافة المكان والزمان في ذروة التاريخ الروائي في العراق، فمن هذه الثقافة يكون الإنطلاق في البحث عن مادة الوقائع والأحداث لعمل أدبي ما. المكان هو المساحة الممتدة لمسرح أحداث الرواية وما جرى في وادي كفران وتوابعه بين القرى المحاذية لذاكرة أشجان الطفولة المبكرة، موجزاً لِنكبات أُسركوردية نُكبوا بالمفاهيم الثورية، وأُدمنوا حتى الثمالة في تمسكهم الصّارم بالمبادى الأممية، هي رقعة الماضي وفي حدودها الزمكانية. الزمن في تحولات الداوودي هو إمتدادٌ سحيقٌ في العودة المسترسلة لأحداث وقعت في إطارها اللارادي، مع حركة الوعي للتغييرات السّريعة في بُنية المجتمع ولكن بفوقيةٍ مستنسخةٍ دون الإعتبار لفشلها بسبب العوامل التاريخية أوالإنتباه إحتياطاً لمعوقات الموروث الديني والقبلي في مجتمع وادي كفران التقليدي. في فاتحة رواية تحولات نشهد على تصاب وإرهاصات فتى مترعرع في حضن موزاييك إثني كركوكي النشأة والهوى والإنتماء وهو في سن المراهقة. في المشهد الأول وعبر نافذة أحلامه الكثيرة نتأمل يفاعته في حزنه المقتحم عليه كيف يكون وجهاً لوجهٍ مع لحظات موت أقرب عزيز على قلبه في المستشفى، وكيفَ ينتقل مع تلك الأحلام الى ما وراء النافذة وصولاً الى جبل بروخ المُطلة على قصبة الطفولة وهو في عالم حلمه المخّدر لأمنياته. قد يكون متيّماً من أول وهلة بحُب مادلين تلك الحسناء الشقراء التي مابرحت ذاكرته رغم مساعيه في اللقاء بعد وفاة والده المحزن في أروقة المستشفى في أيلول 1955. زهدي المحدّث لهو خير شاهدٍ على تلك الأيام الماضية سارداً لنا وبصيغة المواجع موجز الأحداث السياسية والمراحل الصّعبة لنشوء الحركة اليسارية في العراق وتأثيرها على الوعي الجمعي لشباب ذلك العهد، ورجّها للعقول المناهضة لفكر الهيمنة البرجوازية الصغيرة أو الأنصياع للموروثات القبلية. هنا الروائي زهدي متابعٌ حاذقٌ في نقله لتلك الأحداث وإمكانيته الوصفية في نقل خطوط تلك التفاصيل الضرورية هو في وصفه وتشريحه الأجتماعي والأخلاقي لشخصيات تحولات هو كحذاقة فنان محترف في أستكماله للفراغات الضرورية في إضفاء الجمالية الواقعية على اللوحة. يلتقط زهدي وعبر العناوين الداخلية لمشاهد روايته مشاهد مأساوية لبعض الظواهر الإجتماعية الشاذة، ومنها زواج الشيخ الكبير من الفتيات الصغيرات. وينقل في السطور الأخيرة من العنوان الفرعي وتحت عنوان إستعادة الدار المرهونة وعلى لسان صديقه اليساري عباس نامق: كيف إن الرجال الكبار في السّن يتزوجون بعشوائية ودون وعي، من نساء صغيرات وحين يموتون يُخلّفون وراءهم مجموعة من الأطفال تحتار بهم الأم الشابة وفي ضوء قراءتنا لمَسْنا جراح ومعاناة أسر تعيش في بؤس أجتماعي كبير من خلال تصوير د. الداوودي لهم ولمجموعة أخرى من شرائح ذلك المجتمع وفي ظل حقبة زمنية عصيبة مع ملكة القدرة على تصويرها في وقتها كوثيقة سياسية حّية وبعد مضي عقود طويلة عليها، وفي قلم صاحب الرواية تشعر وكأنك تعيش ذلك الزمن وتتفاعل مع وتيرة تحرك الشخصيات القلقة بكل تفاصيلها الطويلة، وكل حسب دوره في صناعة أحداث الرواية , وعلى حد قول محرر جريدة الجريدة والذي لم نتمكن من معرفة إسمه بأن- ميزة زهدي الداودي القصصية هي أنه يجمع في القصّة أو الرواية بين الوثيقة الروائية وبين الوثيقة التاريخية وبين بنية السرد الفني القصصي الخيالي. فلم تكن الوثيقة مسجلة بحذافيرها كما لم تكن الحياة المعاصرة مادة جامدة بل هما في نسيج من يصنع من مناهل تاريخية متعددة مادة قصصية حديثة-.أشاطر ذلك الرأي بأن د. زهدي ينقل لنا وبإسلوب ممتع لحظات إعلان الثورة على العهد الملكي وأقترن ذلك الحدث التاريخي كوثيقة مهمة في سردية فنية موفقة وبأسلوب مشوق ويجعلك قريباً من لحظات فرح ثورة تموز، في عنوان فرعي آخر وتحت عنوان -الثورة - نكون مع تلك الوثيقة بشقيها التاريخي والروائي، فوتيرة ذلك الحَدث الجسيم تتناغم مع فرحة الجموع وبتقنية فنية مستساغة- عندما أيقظتني والدتي في الصباح الباكر وهي تنبهني الى موسيقى وبيانات غريبة لاتفهمها، أنه يوم 14 تموز 1958 كنت أريد ان أواصل نومي بيد أن النداءات الصادرة من المذياع كانت أقوى، ورحت أركض في ساحة البيت كالمخبول وأنا أصيح ثورة..ثورة. وعلى قول الكاتب سلمان زين الدين في كتابته عن رواية تحولات: تشكّل «تحولات» وثيقة روائية لمرحلة معينة من تاريخ العراق لا يزال يعيش مثلها اليوم، وإن بأدوات وأدوار مختلفة. من قال إن التاريخ لايعيد نفسه فالمتتبع لاحداث رواية تحولات يّطل على مرحلة حزينة وقاسية لحياة الشعب العراقي وبجميع قومياته المنكوبة بنكبات مأساة العقول الدموية والذي نعته الكاتب سلمان زين الدين بالأطر السلطوية المغلقة. وتبقى كل الروايات التي تكتب تعبر عن حالات عصيبة مهمة أو تدوينها بصيغة أدبية وبتعابير أكثر فنية من مدونات وملاحظات المؤرخين. فتبقى الرواية في أحسن الأحوال كمنظومة معرفية، ويقول الناقد العراقي الكبير ياسين النصير في مقال له حول رواية الروائي العراقي برهان الخطيب موسوعة ويكيبيديا بأن - الرواية وحسب أفضل نماذجها، منظومة معرفية لا تحصر بالأدب وحده، بل بعلم الإجتماع وسيكولوجيا البشر- ويستشهد برأي ميخائيل باختين ويقول (بأن تفكيك مركزية العالم الأيديولوجي لفظاً، والذي يجد تعبيره في الرواية، يفترض وجود فئة إجتماعية شديدة التباين، ولها علاقة توتر وتبادل حي مع فئات إجتماعية أخرى، فاذا كان هناك مجتمع مغلق على نفسه، أو طائفة، أو طبقة لها نواتها الداخلية الوحيدة والصلبة، فإن عليها أن تتفتت وأن تتخلى عن توازنها الداخلي، وعن إكتفائها بذاتها، لتصبح مجالاً ومنتجاً إجتماعياً لصالح نمو الرواية). وفي دراسة للناقدة العراقية د. فاطمة المحسن حول الرواية العراقية المغتربة (رحلة مضادة الى الوطن) والمنشورة في مجلة نزوى، وفق نظرتها النقدية التحليلية للمشهد الروائي العراقي في المنفى تقف عند رواية أطول عام الدكتور زهدي مسجلة ملاحظة نقدية دقيقة حول عالمها وعّدها من ضمن الروايات الواقعية التوثيقية لمراحل تأريخية ورصد جيد لرقعة جغرافية جبلية أثرت على ذاكرة ومخيلة الروائي نفسه: - تتخذ محاكاة الواقع في رواية زهدي الداوودي أطول عام1994 تجاه ما يمكن أن نسميه الطبيعية أي النظرة الواضحة المنبسطة الى الطبيعة، بل الى الحياة الرعوية، النظرة المحسوبة على الواقعية الأكثر تقليداً للحياة فهو يرصد منطقة تمتد في وادي كفران أحد المعابر الجبلية التي تربط كوردستان العراق بالموصل. تبدو رواية الداودي كما حال روايات الخطيب لجهة توثيقها المراحل وتحديد هوية المكان وأزمنته ومناخاته عودة الى ما فات القص العراقي في الأربعينات والخمسينيات، من إشباع للمساحات المتروكة في المشهد القصصي الذي كان بعد مرحلة ذي النون أيوب التعليمية يشكو من الإختصار، فكانت القصة الطويلة أنسب تعبيراً عن تلك المراحل من الرواية. أما د. زهدي في روايته تحولات ليسَ ناقلاً حرفياً لطبيعة تلك الأحداث الممتدة في تلك الرقعة الجغرافية التي طالتها ملاحظاته التحليلية. ولا هي مسألة ملأ الفراغات أو حشو الصّفحات بالتفصيلات المُمّلة. فالرواية هي تدوينٌ ونقلٌ موفق لمراحل حياتية مُضّمخة بالمآسي وفقَ بنائية معمارية مشّوقة. في رواية تحولات وعبرصفحاتها المقاربة الثلاثمائة صفحة، تشكل الرؤية الإنسانية الواعية من أهم محاورها في تصويرها لتلك الأحداث الجسيمة من تاريخ العراقي السياسي. فالصراع الرئيسي في الرواية قائم بين الجديد والقديم، وبين الفكر التقدمي ومناهظته للعقلية القبلية. فنذكرمجموعة من تلك العناوين الفرعية التي أحتوتها رواية د. زهدي لنؤكد على تلك الحقيقة مثل: الحرية المطلقة، الدراسة، الثورة، المسرح بين الحياة والكواليس، مادلين، قرية الحب العذري، في الطريق الى وادي كفران، فصيل وادي كفران، في الطريق الى خورنه و ه زان، في الطريق الى السجن، والى آخر العناوين الفرعية - العودة الى عالم الحرية -. ومن خلال مطالعتنا لتلك العناوين الفرعية المثبتة يتوجب الوقوف عند لحظة النقد الواقعي وحسب رؤية الناقد المغربي محمد منصور، هو التركيز على التوتر المشدوه لمخيلة المتلقي، والتنقل من مدارات الروايات التقليدية الى أسلوبية الروايات الحديثة، يعني التحديث في منحى الخطاب الروائي إضاءات أخرى بمثابة خاتمة المطاف لفضاء رواية تحولات الداوودي.
بعد جولة غير قصيرة أمضيناها مع أجواء وأحداث رواية تحولات، نستطيع القول بأن زمن ومكان الشخصيات المحورية في الرواية قادنا الى الشعور بدفء ذكرياتنا الجميلة التي عشناها في مسرح أحداث الرواية. وأجمل تلك الروايات هي التي تمتزج معها السير الذاتية، التي تستمد أكثر أحداثها من حياة الروائي أو القاص نفسه وتزيينه بالمشاهد والشخصيات الخيالية، وتركه لعنان تفكيره متّسعاً من الخيال الجميل. مثل تلك النماذج الروائية الممزوجة بالوقائع الحياتية التي عاشه الكاتب فتجد الإقبال عليها من قبل القراء كبيراً, فرواية تحولات هي أشبه بسيرة الروائي الذاتية وأنعكاساتها على الأحداث مع ملاحظة جرأته في تسمية الكثير من الأشياء بمسمياتها دون خجلٍ أو وجلٍ من شي. فورود بعض الفقرات الأيروتيكية أو الألفاظ العارية من الصّرف الأخلاقي المذكور على لسان بعض أبطال الرواية وهم في زاوية معزولة عن المجتمع لا تمنع أرتقاء تحولات الداودي من الّرقي السّمو، فهناك العديد من مشاهير الروائيين العرب والعالميين ضّمنوا في ثنايا سيرهم ورواياتهم عبارات جنسية ومشاهد جارحة لبعض المُحرمات في المجتمع. أسماءٌ لامعةٌ كبيرة وكثيرة أمثال محمد شكري في روايته الخبز الحافي والبرتومورافيا في إمرأتان، وعلاء الأسواني في عمارة يعقوبيان، وآخرين لا تحضرني أسماؤهم. يقول الدكتور والناقد المصري الكبير جابر عصفور في كتابه في محنة الادب في قسمه الثالث بصَدد كتّاب الرواية الذاتية أو السيرة الروائية- تجد شجاعة الإعتراف مقابل الخوف، وتجد الجرأة في تناول التابوهات المُحرمات الإجتماعية والجنسية والدينية والسياسية، مقابل إيثار السلامة بعدم التعرض للمناطق الحسّاسة من الحياة-، ويُحمّل الثقافة غير الجريئة تبِعات ذلك الهاجس فيّعلق عليها- ثقافتنا بحُكم أوضاعها وشروطها لاتتيح للكاتب وضع شجاعة الإعتراف، والكاتب يخشى من نتائج هذا النوع من الشجاعة، فيؤثر السلامة، ويلجأ الى فن الرواية حيث يمكن للتقنية والمراوغة الفنية أن تكون بديلاً لشجاعة الإعتراف-.
وأفضل الروايات هي التي لا تهرب من المواجهة بل التي تتمكن كيف تكون عند المجابهة وتسميتها للكثير من الظواهر الغير المرضية أو الصّحية.