صفحات مطوية من احوال النجف في أيام الحرب العالمية الاُولى

Sunday 18th of December 2016 06:33:49 PM ,

ذاكرة عراقية ,

جعفر الخياط
في خلال 1914 تطورت الأحوال في العالم تطوراً جذرياً وأعلنت الحرب العالمية الاُولى ما بين الحلفاء والدول المركزية. فانحازت الدولة العثمانية التي كان العراق بولاياته الثلاث ينضوي تحت لوائها، إلى جانب الدول المركزية وعلى هذا الأساس أعلنت بريطانيا العظمى الحرب عليها في 29 تشرين الأول 1914، وفي اليوم السادس من تشرين الثاني نزلت القوات البريطانية التي كانت محتشدة في البحرين إلى البر في مصب شط العرب وتقدمت لاحتلال البصرة فدخلت اليها في الثاني والعشرين منه.

وتلت ذلك عدة معارك محلية بين الجيشين العثماني والبريطاني، وكان أهم هذه المعارك ما جرى في موقعة الشعيبة التي وقعت في يوم 12 نيسان 1915. وكانت قد اشتركت مع الجيش العثماني في القتال قوات المجاهدين الذين هبوا للجهاد من النجف وغيرها بقيادة المغفور له محمّد سعيد الحبوبي بعد أن أفتى هو وغيره من العلماء الأعلام به انتصاراً للإسلام وعلى أثر هذه المعركة التي اندحرت فيها القوات العثمانية اندحاراً شنيعاً انتحر بسببه قائدها سليمان عسكري باشا، حدثت تطورات مهمة في أنحاء العراق كافة ومن جملتها النجف. وقد شرحت هذا الموضوع باسهاب، تتطرق فيه إلى ما وقع في النجف أيضاً، المس (غيرترودبيل) في تقرير رسمي مفصل رفع إلى الحكومةالبريطانية عن الوضع العام في العراق خلال سني الاحتلال البريطاني التي انتهت ببداية عهد الانتداب على العراق في صيف 1920.(- Review of Civil Administration of Mesopotamia (CMD 1916) - Prepared by Gertrude L.Bell (C.B.E.
وهذا التقرير هو محتوى الكتاب الذي نشره كاتب هذه السطور لعنوان (فصول من تاريخ العراق القريب) 1949.
فهي تقول ان الحكومة العثمانية كانت قبل دستور 1908 تعترف بأن المدن المقدسة تختلف اختلافاً بيناً عن سائر ممتلكاتها، ولذلك فد منحتها بعض الامتيازات التي كان أهمها إعفاء سكانها من الخدمة العسكرية. وبعد موقعة الشعيبة التجأ عدد من الفارين من الخدمة العسكرية إلى النجف الأشرف، فأعلن الأتراك عن عزمهم على إعادة الفارين إلى الخدمة وهددوا بفرض التجنيد على السكان الأصليين فيها كذلك. وقد علم بالاضافة إلى هذا ان الأتراك كانوا قد قرروا مصادرة محتويات "الخزائن" الموجودة في العتبة المقدسة للانفاق على شؤون الجهاد منها. وراحوا يجبرون الشبان على الخدمة في الجيش، ومن أجل هذا فتشوا البيوت خلال الليل، وتعرضوا بالنساء بحجة ان الرجال كانوا يتخفون بزي النساء للتهرب من الجندية. ثم فرضوا "بدلات" باهظة للاعفاء منها، فهب الناس واستحكموا في الشوارع والدور، ثم وضعوا القوات المدافعة في صحن العتبة المقدسة. فوجه الأتراك مدافعهم نحو الثوار وأنزلوا أضراراً بالمآذن سهواً أو على سبيل التقصد. وعند ذاك طير السيد كاظم اليزدي برقية احتجاج إلى اسطنبول، فكان جوابها اليه أنه يجب أن ينصرف إلى مهنته كدرويش متعبد وأن لا يتعرض لشؤون الحكومة، وقد تلا ذلك قتال دام ثلاثة أيام استسلم بعدها الجنود الأتراك للأهلين الثائرين فجردهم الرعاع من سلاحهم. ثم نهبت بنايات الحكومة واُحرقت، وهدم بيت القائمقام التركي وطرد هو نفسه.
وتعود المس بيل فتذكر ان النجف صار يحكمها بعد حوادث نيسان هذه الشيوخ الأربعة: سيد مهدي السيد سلمان (الحويش)، والحاج عطية أبو كلل (العمارة) وكاظم صبيّ (البراق)، والحاج سعد الحاج راضي (المشراق)، بأنفسهم وبمشورة السيد كاظم اليزدي الذي كان يمثله عندهم ابنه السيد محمّد. ولذلك تأزم الوضع على الأتراك في الفرات بحيث عمدت السلطات التركية إلى تغيير سياستها والالتجاء إلى المسالمة والصلح. فتألفت لجنة من الوجهاء لتسوية الاُمور، وتم الاتفاق على أن يعود القائمقام إلى وظيفته في النجف مع حرس هزيل للحماية. على ان السطوة في البلد بقيت في أيدي الثوار، لأن القائمقام أصبح ألعوبة في أيدي الشيوخ المذكورين ولأن الناس أخذوا يهزأون بحراسه علناً في الشوارع.
غير ان التهدئة هذه لم تكن إلاّ نصراً أجوف للأتراك على حد تعبير (المس بيل) لأنها ما لبثت قليلا حتى أخذ الحاج عطية، بمؤازرة السيد كاظم اليزدي، يتصل سراً برئيس الحكام السياسيين المرتبط بقوات الاحتلال. وقد عرض عليه استعداد النجف والقبائل المحيطة بها للانضمام إلى الانكليز لقاء احترامهم للعتبة المقدسة وعدم التعرض بها. وكان رد رئيس الحكام السياسين على ذلك أنه أشار عليهم بالاطلاع على البيانات التي كانت السلطات البريطانية قد أذاعتها على الملأ عند أول نشوب الحرب وادعت فيها بأنها لم تكن في خصام مع العرب ولا مع المسلمين. وذكّرهم كذلك بالمعاملة الحسنة التي لقيها من الإنكليز رجال الدين الذين وقعوا في أيديهم.

وبعد ذلك تسنى للانكليز أن يثأروا لأنفسهم عن الاندحار الشنيع الذي أصابهم على يد خليل باشا في سلمان باك، وحصار الكوت الذي استسلم فيه الجنرال (طاونزند) مع قواته المحاصرة في 29 نيسان 1916، فاسترد الجنرال مود الكوت في نهاية 1916 وتم له احتلال بغداد في 11 آب 1917. وعلى أثر ذلك بعث علماء النجف وكربلاء، على ما ترويه المس بيل في تقريرها هذا، برقية تهنئة إلى صاحب الجلالة البريطانية فأجابهم عليها معترفاً بتسلمها ومبدياً ان رغبته الخالصة هي انتعاش العراق وسكانه والمحافظة على عتباته المقدسة واستعادته إلى رخائه القديم. ولا شك أنها تعني بذلك بعض المعمين الذين كان يسيئهم تصرّف الأتراك وموظفيهم المتعجرفين، أو الذين كانوا يمالئون الانكليز فصاروا يعرفون بعد ذلك بعلماء "الحفيز" (علماء الحفيز والحفيز بمعنى الأوفيس هو (المكتب) وهم أربعة أشخاص مالئوا السلطات المحتلة ومشوا في ركبهم فنعتوهم بعلماء الحفيز (الأوفيس) تمييزاً لهم عن رجال الدين)..
ثم تشير إلى أن مكتب رئيس الحكام السياسيين في بغداد قد ازدحم في الأيام القلائل الاُولى من أيام الاحتلال بالزوار من جميع الطبقات بدون أن يستثنى منهم حتى أبناء الاُسر المسلمة البارزة. وفي أثر وجهاء بغداد جاء شيوخ القبائل الصغيرة المجاورة لزيارته متعجبين من انهيار العهد القديم المفاجىء ومستبعدين دوام العهد الجديد. وكان من بين الأوائل الذين قدموا من الأماكن البعيدة (محمّد عليّ كمونة) من كربلاء والحاج (عطية أبو كلل) من النجف، وأعقبهما بعد ذلك بقليل شيوخ بلدة النجف الآخرون. فعينت لهم المخصصات، ورجعوا إلى أهلهم مخولين بالمحافظة على الأمن حتى يكون بإمكان السلطة المحتلة معالجة شؤون المدينتين المقدستين بصورة مباشرة.

زيارة السر رونالد ستورز للنجف
وبينما كان الوضع الحكومي في النجف على مثل هذا زار بغداد رجل من رجال الانكليز الذين كان يتألف منهم "المكتب العربي" في القاهرة، المشرف على شؤون الاستخبارات البريطانية الخاصة بالبلاد العربية جمعاء، وهو (السر رونالد ستورز) الذي تعين فيما بعد حاكماً في القدس بمعية (هربرت صموئيل) المندوب السامي الصهيوني في فلسطين بعد احتلال الانكليز لها. وأصبح بعد ذلك حاكماً عاماً في قبرص حينما نفي إليها الملك حسين على أثر ابعاده عن الحجاز، وفي روديسيا الشمالية كذلك. وكان الجنرال ستورز، وهو ملم بالعربية تمام الالمام، قد زار النجف في 19 مايس 1917 قادماً من كربلا فاتصل ببعض وجوهها وعلمائها، ودوّن في كتابه المعروف بأشياء مهمة عنها في هذا الدور.فهو يبدأ بوصف الطريق ما بين كربلا والنجف ويقول انه كان طريقاً سهلا، وبعد أن تجاوز منتصفه مع صحبه بانت له من بعيد القبة المذهبة وهي تتوهج بلمعانها في نور الشمس. وحينما وصل إليها بعد الظهر وخرج الاُلوف لاستقباله على ما يزعم، لا سيما وقد كانت الأسواق مغلقة بمناسبة حلول يوم المبعث. وقد مر بعد ذلك في السوق المؤدية إلى العتبة المقدسة، ومن هناك توجه إلى دار السيد عباس الكليدار. ويأتي على وصف البيت فيخص بالذكر منه السرداب الكبير الذي تنخفض الحرارة فيه بمقدار عشر درجات عن الخارج. وحينما صعد وقت الغروب إلى سطح الدار القريبة من الحضرة المطهرة شاهد منه القبة والمآذن وبرج الساعة في الصحن عن قرب، وصوّر مناظر عدة من هناك على ضوء الشمس الغاربة، ثم استراح حتى دقت الساعة مشيرة إلى الثانية عشرة غروبية. وقد تذكر حينذاك ساعة كيمبرج أو "بيك بين" المشهورة. وبعد ان مل من مقابلة أعضاء المجلس البلدي وكبار الشيوخ على حد تعبيره ذهب إلى الفراش في التاسعة والنصف.
وقد استدعى اليه في صباح اليوم الثاني (20 أيار) تجار الحرير والسجاد، ثم أحضر فتاح الفال الذي نفحه بعشر روبيات برغم عدم براعته في مهنته. وتحدث مدة من الزمن مع الشيخ هادي أحد شيوخ الجعارة فأنبه على ما كان يسمع عنه من تهريبه الطعام والأرزاق بواسطة عشائره إلى ابن رشيد حليف الأتراك في نجد، وهو يقول أنه فاتح شيوخ العشائر الآخرين بالموضوع نفسه وهددهم. وقد توجه إلى الكوفة على أثر هذا فقصد مع جماعته دار علوان الحاج سعدون شيخ بني حسن الذي يسيطر على الطريق الممتد من النجف إلى المسيب على حد تعبيره. وقد حرضه خلال حديثه معه هناك على مهاجمة ابن رشيد ونهب العشرة آلاف جمل التي يملكها فتعهد هو ومن كان معه من الشيوخ الآخرين على تنفيذ ذلك..
وبعد تناول الغداء مروا بجامع الكوفة وشاهدوا ما فيه من آثار ومواقع مهمة، وفي معيتهم السيد عباس الكليدار، ثم عادوا إلى النجف ليرتاحوا في السرداب البارد. وفي الساعة الخامسة من عصر ذلك اليوم توجه السر (رونالد ستورز) مع رفيقه المستر (غاربوت)، لزيارة العلامة الأكبر السيد كاظم اليزدي الذي يمتد نفوذه من العراق إلى إصفهان. ويذكر ستورز في هذا الشأن أن الإنكليز لم يكونوا مطمئنين من موقف السيد تجاههم، وانه كان قد رفض مبلغ المئتي باون الذي قدم اليه على سبيل الهدية من قبل. وكان المستر غاربوت الذي رافقه في السفرة من بغداد قد طلب اليه في هذه المرة أيضاً أن يتحايل على السيد اليزدي فيقدم له رزمة بألف باون هدية من الحكومة. فاستثقل هذه المهمة الصعبة، وكلف السر (رونالد ستورز) نفسه بأن يتولى المهمة عنه، فقبل بتحفظ. ودس الرزمة في جيبه ثم توجها إلى دار السيد، وهناك انتظر برهة من الزمن في خارج حجرته ريثما يخبر بحضورهما. فخرج لهما، وإذا به رجلا متقدماً في السن يلبس "زبوناً" أبيض ويعتمر بعمة سوداء وقد تخضبت لحيته وأظافره بحنة حمراء لماعة. فحياهما من بعيد وأجلسهما على الحصيرة بجنبه خارج الحجرة. ويقول (ستورز) بعد أن تبحر في وجه السيد أنه أدرك في الحال السر في شهرته ونفوذه. فهناك قوة في سيمائه الواضحة وعينيه الرماديتين المتعبتين، وسلطان في وجوده وحديثه الخافت مما لم يجد له مثيلا في أي مكان آخر من بلاد المسلمين.
ويذكر كذلك أنه بعد أن أثنى عليه وعلى مواقفه المشرفة، أخذ يسأله عما إذا كان هناك أي شيء يريد أن يفعله الإنكليز له فبادره بقوله "حافظوا على العتبات الشريفة، حافظوا على العتبات الشريفة". فاعتبر (ستورز) أنه يقصد بذلك المحافظة على العتبات ومن فيها من جماعة العلماء والمجتهدين بوجه عام. ثم عاجله السيد بجملة اخرى طلب اليه فيها أن لا يعينوا في المدن الشيعية إلاّ الموظفين من أبناءالشيعة،وأن يطلقوا سراح بعض الشيعة الذين كانوا معتقلين ومنهم الدكتور مظفر بك، وأن يعينوا المرزا محمّد (وهو المحامي محمّد أحمد الموجود حالياً في البصرة) قائمقاماً في النجف ( - كان المرزا محمّد قد اشتغل مع الانكليز قبل الحرب في منطقة الخليج، وجاء مع الحملة إلى العراق فعين معاوناً للحاكم السياسي في كربلاء).

وفي هذه المرحلة بدا السيد اليزدي للسر (رونالد) وكأنه قد نزل من عليائه بعض الشيء، لأنه أنعم عليه كما يقول بجملة ثناء أعقبها بكلمة فارسية خاطب بها عالماً آخر كان موجوداً في مجلسه، وقد علم بعد ذلك أنه قال له ان الأتراك لو كانوا يسلكون مثل هذا السلوك لما أضاعوا تعلق العرب بهم مطلقاً. فما كان من السر إلاّ أن يعده بنقل توجيهاته ومشورته هذه إلى السر بيرسي كوكس في بغداد. وبعد تردد وإحجام طلب إلى السيد أن يختلي به وحده لمدة ثلاث دقائق فقط، ثم ذكّره بوجود عدد لا يحصى من الفقراء الذين كانوا ينظرون اليه في اعاشتهم على الدوام، واسترحم منه بأن يمد يد المساعدة للأنكليز في هذا الشأن. وحينما مد (ستورز) يده لتقديم رزمة الباونات إلى السيد في هذه الأثناء دفع السيد الرزمة برفق مقرون بالعزم الأكيد وهو يعتذر عن قبولها. فلم يجد (ستورز) من اللياقة الالحاح على تقديمها، وعمد إلى فتح موضوع الشريف معه. وهو يقول ان السيد كان من المعجبين (بالشريف) والمؤيدين له. وبعد ساعة انقضت على هذا المنوال عزم السر (رونالد) على توديع السيد والعودة إلى المنزل، غير أنه قبل أن يفعل ذلك حاول تقديم الألف باون مرة ثانية اليه، لكنه رفضها من جديد بكل مجاملة وأدب. وهو يعتقد ان الشيء المهم الذي كان يعبأ به السيد هو الأنفة والإباء لا المال، وأنه لابد أن يخضع في الأخير بطريقة مناسبة حينما يكون الدافع لذلك شيئاً لا مطعن فيه. وهذا موقف بعيد تمام البعد عما يحدث في مصر والحجاز في ظروف مماثلة على حد تعبيره.

وحينما عاد ستورز بعد ذلك إلى منزل مضيفه السيد عباس الكليدار طلب اليه أن يشاركه في تناول العشاء ويضحي بآداب المجاملة التي تدعوه إلى الوقوف في خدمة الضيف في أثناء الطعام وهو يذكر باعجاب ان السيد عباس وقف بعد ذلك للعناية بتقديم العشاء للسواق أيضاً على المائدة نفسها. ثم آوى إلى فراشه بعد مدة وقضى ليلة خالية من النسيم تماماً فوق السطح، وقد تسنى له خلالها أن يعجب بالهدوء التام والصمت الغريب الذي كان يلف النجف ما بين الساعة الثانية والرابعة بعد منتصف الليل وقبيل الفجر كذلك.
وقد غادر السر (رونالد) النجف صباح اليوم الثاني (21 أيار 1917) بعد أن وزّع حوالي مئة وخمسين روبية على الخدم فيها. فمر عند خروجه منها الى طريق كربلاء بالمقابر التي يدفع فيها الناس ستين باوناً لقاء السماح لهم بدفن موتاهم وهو يقول انه سرّ تمام السرور لأنه ابتعد عن ضيق البيوت التي كانت تحتشد بالخمسين ألف نسمة من سكانها المحصورين بين جدرانها الضيقة من دون أن تتهيأ الفرصة لأن يقع نظرهم على أي نبات أخضر أو تشم أنوفهم الهواء النقي.

عن موسوعة العتبات المقدسة ــ قسم النجف