عبد الجبار البناء.. مسيرة فنية حافلة بالابداع

Wednesday 23rd of November 2016 07:05:56 PM ,

عراقيون ,

قاسم العزاوي
مدخل لابد منه:
--------------
(في ساعة مولدي، لم اصرخ كما يصرخ كل طفل، وظن اهلي اني مــيت، حكت لي امي: اني لم أرضع لبنها وجف وجف بعد ذلك...
الأصرار والتحدي والوقوف صامدا في وجه ضربات القدر، أطور قدراتي في فن النحت...).
من هذه الكلمات الصارخة التي استهلها الفنان عبد الجبار البنـــا ء، والمستلة مــن (فولدر) معرضه السادس على قاعة حوار عام 1996..

ستكون سياحتي في عالم الفنان وأحاول التقرب كثيرا من البذرة الاولى لمقترباته الفنية ومنجزه البصري بصورة عامة، وملامسة خطواته الاولى وهي تحبو في عالم واسع ملئ بالمتعة والجمال... وهو يطمر بذرته الصغيرة في طين الحديقة التشكيلية والتي ستنمو وتورق وتثمر قطعا نحتية ولوحات تتغنى بألوانها البهيجه...
هنـــــاك:
في محلة باب الشيخ، تلك المحلة الهاجعة وسط مدينة بغداد، لم ترجع جدرانها المبنية من (اللبن) صدى صراخ مولودها الجديد، بل كان السكون مخيما، الآ مــن تسأولآت أمه وهي تذرف الدموع من عينين حائرتين وتصرخ بصمت:
(هــل ولدتــه ميتـــا...؟!)
لكن هذا الحي الشعبي، سرعان ماسيحتضن، أسما يضاف الى الكثير من الشخصيات الفكرية والفنية والادبية من أمثال الشاعر عبد الوهاب البياتي، والقاص والروائي / فؤاد التكرلي، وأبراهيم شكر.. ووو.. ويضاف لهذه القائمة المعرفية مولودا جديداً، سيكون له شأن في عالم الفن التشكيلي.. هو المولود الذي لم يصرخ ساعة ولادته اسمه (عبد الجبار البنـــــاء) ويكحل عام 1924 م بهذا الاسم...حينها تهدل الفاختة الهاجعة على شجرة التوت بالمولود الجديد..وتخفق جناحيهاوهي تحلق في فضاء ازرق مستبشرة بما سيؤول اليه هذا المولود ويبصم بصمته الواضحة في عالم التشكيل...
2
الطين.. يناديه.. تعال:
----------------------
لايخفى ما للطين كخامة مهمة بالنحت وتشكيلاته وتكويناته, من قدسية منذ بداية الخلق الاول وانحياز الخالق لهذه الخامة ,(ما جرى بين ابليس وآدم) , وتناقلت اللعب بهذه الخامة الاجيال المتعاقبة وبرزت بوضوح , بما تركه الارث الرافديني القديم من اثر ثر من التشكيلات الطينية.وما انتجة الانسان الرافديني من تمائيل مجسدة لملوك وحيوانات اضافة الى الريليفات الكبيرة المجسدة للملاحم البطولية ولطقوس العبادة.ولمواكب الصيد اضافة للمسلات والرقم الطينية وغيرها، انها لعلاقة جدلية بين الانسان والطين , غارت عميقا في الانتفاءات المكانية والمعاشية , والاقتصادية والتشكيلية والتزيينية..من هنا كان الطين ينادي عبد الجبار البناء،كما انجذب اليه بقية النحاتين... والطفل,عبد الجبار البناء , كيفية الاطفال , بجذبهم اللعب بالطين وخلق مجسمات بما تراه مخيلته , من وجوه بشرية وطيور وحيوانات اليفة.. كان مشدودا بخامة الطين المقدسة, وبيوت باب الشيخ كانت معظمها مبنية من (اللبن) , تفوح منها رائحة الطين حين تزخ بالمطر , او ترش بالماء.. (باه.. من منكم شم تلك الرائحة المحببة حين يرش (اللبن) بالماء.., لذا, كان الطفل عبد الجبار , ينقاد الى قطع (اللبن) ويصنع مجسماته , واشكال تنتمي لواقع الطفولة وامنياته بامتلاكها , وللطفل رؤيته الخاصة وتصوراته عن الاشياء , غالبا ماتكون بريئة غير ملونة وتتصف بالصدق والطفولية , وللطفل عبد الجبار , امنياته بامتلاك اشياء واشياء , لم يحصل عليها بالواقع لذا, كان يجسدها ويتأملها بحب وحميمية،يمرح معها ويداعبها ويكلمها ايضا.... وحين تثلم اوتتهشم , قطعة اللبن المجسدة , كان يعاود في تشكيلها من جديد.. من هنا تعلم الطفل الاصرار والمعاودة على العمل , وذلك كان الدرس الاول لتعلمه الصبر والمثابرة , ولا يقنط ويصيبه الاحباط.. ان مصاحبة الطفل لوالده المعمار المتمرس , رغم انه لم يدرس المعمار وكان اميا, الا انه صمم وبنى الكثير من الدور والابنية.. وكان يتعامل بالطين والحجر والجص وهذه (خامات نحتية) سرع في نمو الذائقة النحتية لدى الفنان وذلك باقترابه اكثر من منطقة اشتغال والده المعمار...,
3
ولكن محطته الاولى والتي اعطته دفعة معنوية وفتقت بذرته النحتية وبروز ملامحها , حين كان في دراسته الابتدائية سنة (1937) م مدرسة (باب الشيخ) وهو في الخامس الابتدائي...
(وراح يسترجع السنوات المتراكمة في ذاكرته القادمة , واظنه توقف عند سنة لها سحرها في بداياته الصحيحة)قال: رحم الله الشهيد حسين محمد الشبيبي
لقد كان له الفضل الاول , وكان يدرس اللغة العربية لكنه متعدد المواهب ,
وتبنى اقامة معرضا فنيا شاملا:من نحت ورسم وخط وزخرف للطلبة ,وطلب من كل طالب ان يعد عملا فنيا بالرسم والنحت والخط... وفعلا نحت البناء الطالب رأس فتاة, لكنه لم يستطع ان يكمل فمها , لذا، لم يجلبه في اليوم التالي، وحين سأله المعلم قال: انه لم يكتمل، ولكن المعلم اصر على مشاركة الطالب عبد الجبار البنــا ء، وأرسله لاحضار التمثال... لقــد أعجب به الشبيبي أيمــا أعجاب وقـال له بلهجته الشعبية (راح تصير خوش نحات).
زاده هذا الاطراء المعنوي على مواصلة العمل والثقة بالنفس... ومازال يذكر معلمه الاول الذي غرس فيه بذرة الفــن.. كان مثاله الذي يعتز به (ولم يكن حينذاك يعرف حقيقة الشبيبي والموقع الذي يحتله في الحزب الشيوعي العراقي إلا حين أعلن عن اعدامه مــع رفيقيه فهـــد و زكـــي)
كان البنـــاء، حالـما، بأن يلتقي بفنان ينحت مجسما، لذا كان يجوب شارع الملك غازي متأملا (المونيكانات) العارضة للازياء، ويقف امام تفصيلاتها طويلا، ويتساءل: هل اكون مثل الذي جسدها ياليتني من عملها؟.. وهناك في شارع الملك غازي وبالتحديد في مقهى (احمد فتاح) قرب الرصافي، تابع وهويتأمل احد الفنانين ينحت تمثالا لأحد الشخصيات (من هو.. لايدري).. وحين عودته للبيت راح ينحت وينحت، حتى ساعة متأخرة من الليل، وظل يتابع الفنانين ويتـعرف على تجـاربهم النحتية وهــو يتابع بشغق أناملهم وأزاميلهم وهــي تداعب الحجر والطين.. وأعتقد ان واحدة من اهــم عناصر النمـو الصحيح، اضافة للموهبــة
4
هـوالبحث والمتابعة لتجارب الفنانين، أضافة لمعايشتهم والتعرف على منجزهم التشكيلي
فــــي العام 1953 سجن في سجن بغداد المركزي، السجن الانفرادي في باب المعظم لانتماءه الفكري التقدمي، وكان معه في السجن عبد الرحيم شريف وفــي السجن كان يطلب من أمــه حين تزوره بالسجن أن تجلب له الطيـــن.. وعمـــل رأس تمثال لمدير مستشفى السجن الدكتور مظفر علي... ونا ل اعجاب المديـــــر، وأهتم به اهتماما خاصا...
ان سفر الفنان عبد الجبار البنـــاء حافل بالذاكرة والمنجز التشكيلي نحتا ورسما، منذ تخرجه من معهد الفنون الجميلة 1959 – 1960 والى الان من عمره المديد الذي جاوز السابعة والثمانين، وبذا يكون ذاكرة ثقافية وفنية تؤرخ بمنجزاته المتعددة محطات أغـنت الساحة التشكيليلة العراقية بالعديد من المنجزات البصرية
رسما ونحتا، وأقام العديد من المعارض الشخصية تجاوزت أكثر من ثمانية معارض، اضافة لأغناء المتحف الشعبي بــ (80) قطعة فنية فلكلورية جسدت العادات البغدادية المتوارثة..
قــــراءة لاعمــــــال البنــــــاء
منذ اعماله الاولى والى الان، نلمس بأسلوبية الفنان عبد الجبار البناء، جنوحا واضحا نحو الواقعية، والواقعية التعبيرية، وبمقتربات التجريد التعبيري، لقـــد سعى الفنان عبد الجبار البنــاء في الفترة الاخيرة الى تشذيب اعماله المشخصنة والمجسدة صوب الاختزال ببعض أجزاءها ليعطيها مسحة تعبيرية...، يتـــوج منجزاته النحتية بمقتربات تعبيرية رمزية، وبعضها تحاول الاقتراب من تجريدية خجولة.. واذا مــا أقتربنا أكثر وحاولنا الغوص في منحوتاته وكشف جذورها ومرجعياتها، نرى اننا أمام فنون رافدينية قديمة، وخاصة الآشورية وماتمتلك من رمزية واضحة وتأكيدها (للذات هدفا والواقعية مرتكزا) ولاتخلو أعماله النحتية بطبيعة الحال من سمات آشورية وبابلية، وبغنائيه نكاد نسمع أنغامها منبعثة من زمن سحيق، ويرجع صداه، واقع معاشي، ومعرفية متزاوجة ومتلاحمة بين الماضي السحيق وبين ماأكتسبه من معرفية حداثية..، وبذا يؤكد مادأب عليـــه
5
الرواد من الفنانين العراقيين وعلى قائمتهم الرائد المجدد جواد سليم الذي زاوج العالمية بالمحلية، والسعي لايجاد مدرسة بغدادية لها سماتها الوطنية، وذلك بأستلهام الرافدينيات بأسلوب معاصر.... وهذا مانراه واضحا في الاعمال الخشبية العديدةالتي أنجزتها أنامل الفنان عبد الجبار البنــاء وهي تمــور بمواضيعها المتعددة، وبأسلوبيتها التي تنتمي لبصمة الفنان الخاصة،وحفربصمته عميقا في المشهد التشكيلي العراقي المعاصر،بحيث يستطيع المتلقي والمتذوق لجماليات الفن التشكيلي ان يتعرف على منجز البناء ويؤشر عليه من بين عشرات الاعمال الفنية،وهذا يعني ان البناء نجح بانتقاء اسلوبيته وتفرد بمنجزه الذي ينتمي اليه رغم تراكم التجارب وماخزنته ذاكرة الفنان من مشاهدات وتأثيرات واساليب متنوعة كان لها الفضل في نمو وتطور معرفياته البصرية والجمالية والاسلوبية ايضا...
احتلت موضوعة المرأة معظم اعماله، مثلما نقل العلاقة الحميمة التي تربط الرجل بالمرأة بوحدة غنائية تقترب احيانا من العشق الصوفي والذوبان في الاخر، ان لدلالة المرآءة في اعمال البنــاء عدة مرتكزات ومرجعيات فهي: الطبيعة والخصب والخلق، وهي الانتمـاء الوطني اضافة الى ما تتصف به المرأة مـــن ديمومة للحياة. لم يبرز البناء تفصيلات المرأة الجمالية وانما يؤكد على مناطق الرشاقة والتدويرات والانحناءات ليعطيها اسلوبها الرمزي والتعبيري ويبوح مافي داخلها من جمال.. موضوعة الانسان وهمه وطموحه بجميع مفاصلها مشهده البصري النحتي وبالرسم ايضا وبتخيطاته وموتيفاته المتعددة،وما تمتاز به من ركوز وثبات الرؤيا التي تقترب وتلامس الحالة الصوفية والذوبان والحلول بذات الاخر بتناغم وتجانس عشقي تحلق في فضاء منفتح على الجسد،هذا العشق الصوفي للانسان جعل البناء يندمج مجتمعيا مع الانسان وهمومه وتاملاته ورؤاه،يكاد المتلقي ان يلامسها وينجذب لها لانها تحاكيه وتثير به الحنين:لفاتنة عشقها،ولعزيز غادره بغفلة من الزمن ولامكنة اليفة احتوته ولصدى ذاكرة ترن في اذنيه...تعال..!! عبد الجبار البناء فنان منفتح على الحياة وقيم الانسان..لذا نرى منجزه البصري داينميكيا لايؤمن بالاستقرار والركون في الزوايا المظلمة الرطبة..زاوج الفنان عبد الجبار البناء،بين الرسم والنحت وأنجز العديد من الريليفات والتي تقترب من اللوحة ذات الملمس الخشن،ليؤكد مقدرته على اللعب باللون ليضيفه على الكتلة النحتية او المجسد النحتي،ولتفريغ طاقاته اللونية المخزونة من تراكمات مشاهداته لبهاء الطبيعة وسحرها الاخذاذ،بأعتبارها المنهل الاول الذي يغترف منه
6
الفنان كماته وطاقاته اللونية،و هذا يؤكد انتماء الفنان والتصاقه بالحياة والطبيعة والناس...اضافة لمنجزه النحتي الثر والمتنوع بالاساليب والرؤى،رسم الفنان عشرات اللوحات الزيتية والمائية بأسلوب تعبيري يميل للنحت كثيرا،اضافة للعديد من اللوحات الانطباعية وهي تمور بألوانها المشرقة.. ان لجوء الفنان عبد الجبار البنـــاء الى الرسم لتفريغ طاقاته اللونية ليبثها على قماشة اللوحة، كي لاتبقى مكبوته داخل مخيلته الباحثة عن اللون والجمال ولتعويض خسارة القطعة النحتية للون.. مثلما نفــــذ سلسلة من الورقيات بالحبر الاسود، عالج فيها العلاقة بين المرآءة والر جل وماتربطهما من علاقة حميمية..وبخطوط منسابة ببراعة ودراية وتمكن....

تعددت خامات الفنان في منطقة اشتغاله الفني ومختبره النحتي،بين الخشب والحجروالبرونز والنحاس والطين والجبس..لكن الخشب وبأنواعه احتل الجزء الاعظم من منجزه النحتي،،رغم ان الخشب والحجر لايقبلا الخطأ والتصحيح كما الطين والجبس،لكن ازميل البناء يتحرك على قطعة الخشب بانسياب وتمكن،هو خبير بتأهيل فراغ القطعة تشكيليا،اي انه يرى ما ستؤول اليه قطعة الخشب ويراها منجزة قبل انجازها،يتصورها مطبوعة داخل الكتلة بكل تفاصيلها..وما عليه سوى تحريك ازميله وتشذيب وقطع ما لاينتمي الى مجسده جانبا وبذا يبرز موضوعه مكتملا يمور بالجمال والرقة والابداع.... والبناء طارق متمكن للنحاس لنقل موضوعته الفنية داخل فضاء رقعة النحاس..ويرى عبد الجبار البناء ان الفنان يستطيع ان يصنع تشكيلاته النحتية من اي خامة تحقق له منجره الابداعي..ويبث فيها شفراته التعبيرية والرمزية وبقية الشفرات الاخرى،وبذا تتحرك الخامة من سكونيتها وجمادها ورتابتها الى فعل متحرك وناطق وهي تستقبل فضاء مكانها بفرح وألفة،وتتفاعل وتتحاور مع المشاهد او المتلقي وتبث له همومها،فرحها،عشقها،رؤاها،ويشاركها المتلقي ببوحها هذا...من هنا تنوعت خامات الفنان عبد الجبار البناء،وجرب الاشتغال على معظمها بتلقائية ودراية وثقة..كيف لا،وهو سليل حضارة نحتية تمتد لاكثر من 3000 سنة قبل الميلاد ويستند الى مرجعية نحتية ضربت جذورها عميقا وانتجت كنزا نفيسا من الاعمال النحتية وبخامات متعددة ومتنوعة من:حجر وطين وبرونز وفضة وذهب وزجاج وحصى وكلس....