النحت العراقي التجريدي المعاصر،من جواد سليم الى عبد الجبار البناء

Wednesday 23rd of November 2016 07:04:56 PM ,

عراقيون ,

محمد صفاء حمودي
ان النظر إلى الفن عموما باعتباره ظاهرة أو شكلا من إشكال النشاط الاجتماعي حيث تتحدد أهميته بثقافة الإنسان ككائن اجتماعي يعمل على تغيير الطبيعة وتحويلها إلى تلبية حاجاته المتنامية بمختلف مراحل تطور النشاط الفكري المجتمعي.

أي ان الفن يرتبط ارتباطا وثيقا ومباشرا بمختلف القوى الفاعلة في تاريخ تطور المجتمع ماديا وفكريا، وعليه فالمجتمع العراقي شأنه شأن المجتمعات الأخرى سعى إلى الفن كضرورة (اعتبرها متوارثة) نقلت الحضارة الإنسانية الممتدة إلى آلاف السنين والمحملة بأيدلوجيات فكرية معمقة انتقلت خلال عصور مكونة بذلك نمطا معبرا من فكرة المجتمع المتنقل من مخاضات متعددة أسفرت عن مجموعة من المنجزات الفنية والمرتبطة ارتباطا وثيقا بروح المجتمع العراقي ومعبرة عنه، والمغذي لصراعات الاتجاهات الفنية الحديثة في المنجز الفني العراقي هو حركة التحولات الهائلة في تاريخ الفكر البشري والتي وردت الينا في اطر فكرية بمدارس ومناهج وتجارب عاشها المجتمع الأوربي بشكل خاص، وإلفها المجتمع العراقي عن طريق الاتصال الفكري عبر وسائل الاتصال وبمجموعة المداخلات الثقافية التي حدثت في العالم نتيجة الاختلاط الثقافي ان كان عن طريق المعارض أو عن طريق الدارسين خارج القطر.

ووفق هذه المعطيات برزت أسماء لامعة في سماء المجتمع الفني العراقي وعكست أعمالها الخلاصات التراثية والبيئية والحضارية والفكرية العراقية ممتزجة بثقافات تلك البلدان فأصبحت هناك محصلة يتجاذب أطرافها طرفي الثقافة وحورها الفنان العراقي فمنهم من بقي بتجربته العراقية الخالصة المستوعبة للإرث الحضاري العميق ومنهم من التجئ لمعظم التيارات الثقافية والفنية العالمية، إذ لا يختلف من حيث المقومات الفكرية التي تنبع من الواقع الاجتماعي والنفسي وتكون لها تأثيرات مباشرة أو غير مباشرة في أسلوب الفنان، اذ أنه « وكما للفن الشعبي قيمه اجتماعية وحرفية ارتبطت بالحياة اليومية والعادات والتقاليد، ولقد توسعت الحركة التشكيلية في العراق وتنوعت بعد أن كان للفن الأوربي دوره في البدايات والنشأة «.
اذ تتفاعل ثمار الفكر والحضارة الأوربية والتراث الحضاري العراقي العربي ليصبح للفنان العراقي دورة في محاولات أيجاد ما يناسب عراقيته وتحديد أسلوبه الخاص بما يحاكي روح العصر «رغم تأثره بالفن الغربي تأثيراً واضحا الا انه أستنبط في فنه من التراث العراقي».

جواد سليم
فمن ابرز من تلاقحت منهجيته الفنية بالحضارة الغربية هو الفنان جواد سليم، (ولد في انقرة سنة 1919 من ابوين عراقيين، سافر إلى فرنسا سنة 1928 لدراسة الفن ثم عاد إلى بغداد بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، عين مدرسا لمادة النحت في معهد الفنون الجميلة بعد عودته من باريس عام 1945، سافر إلى لندن لدراسة الفن ايضا، توفي في بغداد عام 1961، أهم أعماله جداريه نصب الحرية في بغداد) إذ « أن استيعاب جواد الواعي للتراث هو احد الأسباب الجوهرية في إبداعه الفني الذي يتركز في كونه أنطلق من المحلية إلى العالمية «. وأبدع في صياغة ارث حضاري عراقي خالص، إذ أنه يحمل في جعبته خليط من التأثير بالماضي مع محاولة التجديد، في الوقت نفسه لا ننسى الظروف التي تحيط بالفنان بشكل عام من حالة سايكلوجية أو بيئية أو كفكر سائد، إذ نلاحظ في عمله (نصب الحرية) الهوية المنفردة التي يحملها جواد سليم، على واجهه من الحجر الأبيض اللون وهي عبارة عن لافتة مدون عليها نص ليس هو بالكتابي المقروء وإنما كمفردات تقرأ من خلالها أهداف ورؤى قد نظمها بعلاقات تنظيمية، حاكت واقع جديد، حاملاً في طياته رموزاً، ليصل في ذلك التنظيم الشكلي الجديد إلى المعاصرة في الشكل وهي تعد «أصدق مرحلة وأكثرها تحديداً لشخصيته، تلك المرحلة التي عصرن فيها تقاليد الفن الرافديني في أعماله... وكان مشروع نصب الحرية رائعة أعماله الفنية وكمال عبقريته».
نلاحظ في ذلك النصب والشخوص أنها بعيدة عن التشخيص في الأشكال وانه يعلو ويتسامى في فنه ليرجع إلى أصوله السومرية وما كان يفعله الفنان السومري في فنه الذي يرتفع عن أرض الواقع إلى عالم أخر أسمى، ولاسيما «عندما لا يعود الإنسان يخاطب الإنسان بل الإنسانية».
ويظهر في العمل الخصائص الفنية التي مثلت في رمزية الموضوع وقوة التعبير الفني من خلال تكويناته التي شيدت على ذلك الجدار الحجري إذ نلاحظ أن جواد سليم قد أحال أشكاله إلى الاختزال وتبسيط الشكل كما أعطى لنفسه حرية التصرف في خلق تلك الأعمال، ولكن على وفق قواعد جمالية أعطت للفن مفهوماً جديداً، وخاصة النحت العراقي المعاصر، الذي كان في سبات طويل بسبب الأوضاع السياسية التي مر بها العراق أي قبل فترة الأربعينيات من القرن العشرين إذ «كانت فترة الأربعينيات بالنسبة للفن العراقي المعاصر فترة تحول، وانطلاق، تحول عن المفاهيم الساذجة والأكاديمية نحو التجديد، والانطلاق عبر التقنية الحديثة».
وبهذا يعد جواد سليم قطباً من الفنانين المبدعين وخاصة في تجريد الأشكال، وإعطاؤها قوة تأملية وتأويلية، إذ نجده في عمله (السجين السياسي 1953)، أنه قد حاور مادته كي تحال إلى أشكال لم تكن معروفة مسبقاً، كذلك لم يكن الفكر آنذاك يستوعبها، أذ نجد في هذا العمل تحول في الشكل إلى حالة مجرده وتوسع انفتاح الدلالة فيه، إذ تجاوز التصوير الايقوني للشكل إلى رموز وعلامات داله، إذ يتكون من مجموعة من الوحدات الشكلية لتمثل من خلالها تلك الأعمدة الحديثة التي أحاطت بجهاتها الأربعة العمل، كما ويتخلل العمل أسلاك من المعدن مرتبطة بالأعمدة لتتصل بكرة صغيرة في الوسط ليخلق من خلالها بعداً للعمل وهو المجهول. نجد أن عمله هذا قد خرج عن المألوف والتشبيه وهو يعد ابتكار جديد في فن النحت علماً أنه استعار عناصر التكوين من مواد غير عضوية ممثلة بالأعمدة والهلال، كما أنه سيد عناصر الخط والفضاء الداخلي فيها فحسب، فأستطاع من خلال حركة تكوينات الخطوط ممثلة بالأعمدة والهلال أن يعبر عن موضوعه، إذ يذكرنا جواد سليم في عمله هذا بأسلوب جاكوميتي في عملة السلكي (القصر في الرابعة فجراً) قد نلاحظ أن استلهام فكرة الأسلاك واردة ولكن بدافع موضوعي جديد ولفكرة جديدة، وبهذا نجد انه قد صاغ أشاراته الدلالية بوصفها لغة وأداه تواصل، زاوج فيها بين استلهامه للحضارة و تأثره بالنحت الأوربي المعاصر، أذ نجده قد أتبع المنهج التوفيقي الذي «يقتضي الدمج بين الأسلوب والتقنيات المعاصرة المستمدة من الحضارة الأوربية والعالمية من جهة والسمة أو الطابع المحلي والممثل للحضارة العراقية والعربية في مختلف مراحلها من جهة أخرى»
فنرى الكثير من الرموز في أعماله المنتقاة من الحضارة الأشورية كالثور مثلاً وآلهه الخصب، إذ استطاع أن يوجد لغة للتواصل الفكري ما بين الفنان والمتلقي، كما في عملة (حيوان أسطوري 1954) المصنوع من المرمر والحديد.
الإيحاءات الموجودة تشير إلى ذلك الحيوان، فنجد النحات نجح في تحقيق المزاوجة والألفة بين المواد المتناقضة في عمله هذا وأحالها إلى شكل جديد غير مألوف «وهو بلا شك يمثل موضوعاً ديناميكياً لما يوحي به من حركة فعلية للحيوان على الرغم من سمة التبسيط والاختزال في منجزة النحتي الذي يمثل أحد أساليب الحداثة لجرأة النحات في الاستعاضة بأطراف معدنية سلكية للحيوان المنحوت»، كما أهتم بعنصر المادة والملمس والفضاء، إذ حقق الملمس الصقيل وأكد على الفضاء الداخلي المتحقق بفعل الأسلاك لإطرافه الأمامية وارتفاع كتلة الجسم عن الأرض من خلال الأسلاك الموجودة، بهذا نجد أن جواد سليم قد «طرح مفاهيم معاصرة في الرؤية التشكيلية العراقية، ذلك لأنه لم يكن يطفو على سطوح أعماله أبداً بل كان يتغلغل في دواخلها لا كظهير خارجي بل كتجربة وتأمل داخلين وهذا ما أمكنه من استشفاف وعيه الحضاري « و «جعل فنه واسطة تحمل مسؤولية خلق أسلوب حديث منتزع من غاية التطور العالمي في الأسلوب، ومتقمص الطابع المحلي في الوقت نفسه»، كالاختزالات التي وصلت حد التجريد في الفن والمعالجات الفضائية والرمزية العالية التي جعلت من العمل قمة المعاصرة والحداثة.
حاول جواد سليم أن يختزل الكثير من التفاصيل الداخلة في معظم أعماله، أن لم نكن مغالين ونقول جميعها، فهو يميل إلى التبسيط في معظم أجزاء أي شكل يقوم بتنفيذه نحتاً كان أم رسماً، في محاولة جادة لهجر ما كان سائداً من أساليب تقترب في أساسياتها من الاسلوب الانطباعي ومقترباً بقوة من التجريد بخطى لا يمكن تجاهلها.

أن النحات العراقي قد تجرأ كثيرا في محاولة الاختلاط بالفنون الأوربية أو بالمدارس التي ظهرت فيها فتارة يحاول التقليد وأخرى يحاول التجريب واعتقد ان محاولة التجريب هي السائدة على اعتبار ان موضوعة الانعتاق من قيود الشكل الملزمة والوتيرة المتسارعة في الحياة والاطلاع على تجارب الآخرين، اكسب الفنان تلك الجرأة على اعتبار ان الشكل ومطاوعته ينتج من الذاتية التأثيرية لدى الفنان بمختلف المراحل فيحاول بشتى الطرق تحقيق رغبة الوصول إلى ما يرضي ذاته، فنراه يحاول مجربا الكثير من الاتجاهات للوصول إلى غايته الذاتية ومحررا إشكالاً تلبي نزعته للوصول إلى الحقيقة.
كما وأن لهؤلاء النحاتين دوراً بارزاً في أظهار طبيعة الفن العراقي المعاصر وتحديد مساره الفني، رغم تنوع الأساليب والاتجاهات التي جاءت بها مختلف المدارس والتي تبناها العديد من النحاتين ولكن كل مبدع عمل وفق أسس وقواعد خاصة به أغلبها كانت تمت للإرث الحضاري من جانب، كي يتمكن من مخاطبة المتلقي وأيضا إيصال المفاهيم العراقية إلى العالمية، ومن خلال تلك المنجزات تمكن النحاتين العراقيين أن يخرجوا من واقع المحاكاة التشخيصية رغم الإمكانيات العالية التي يمتلكوها في النقل الحرفي للواقع، معتمدين على العلاقات الجمالية الجديدة في المنجز النحتي المعاصر.

•عبد الجبار البناء
إذ نلاحظ في عمل الفنان عبد الجبار البناء (فنان نحات رسام ولد في بغداد / محلة باب الشيخ 1925. تخرج في معهد الفنون الجميلة قسم النحت 59-1960. عضو في نقابة الفنانين العراقيين. عضو في جمعية التشكيليين العراقيين. تم انتخابه ثلاث دورات في عضوية الهيأة الإدارية لجمعية التشكيليين. درّس في المملكة العربية السعودية / مدينة الرياض مدة أربع سنوات (1964 ـ 1968). حاضر في القسم المسائي فرع النحت في معهد الفنون الجميلة. عمل رئيسا للقسم الفني في متحف التاريخ الطبيعي. ساهم في العديد من نشاطات جمعية الفنانين والمتحف الوطني. أنجز ثمانين قطعة فنية فولكلورية في المتحف البغدادي. أقام اثني عشر معرضا شخصياً) (رجل و أمرآة 1990)، والمعمول من الخشب، إذ نرى في العمل قد أحال النحات طبيعة الخشب وأستثمرها لصالح عمله فقد شكل منها بطريقة الحذف تكوينه النحتي، وبهذا التكوين نشاهد الخروج الواضح عن المحاكاة، واقتراب الشكل من النظم الواقعية أذ أظهر بعض السمات الجسدية المميزة للمرأة مثلاً كالصدر وكبر حجم الورك.
بالرغم من أن العمل يخلو من كل التفاصيل التشريحية للجسم، اكتفى الفنان بكتل وسطوح و حزوز أستطاع أن يعبر من خلالها عن الجسد. نفذ البناء عمله هذا من الشكل العضوي محملاً بقيم تجريدية ذي قيمة تعبيرية عالية من خلال ليونة خطوطه واللون الذي أستثمره في تناسقها مع المضمون المطروح بحيث جاء متناغماً لحد كبير وأنجح من فكرة العمل وطبيعة الإخراج الشكلي المنفذ والذي يعد من ضمن النحت التركيبي لأضافته أكثر من مادة وتجميعها بطريقة فنية عكست عن قدرته في تأليف عمل ذي خامة منوعة ومنسجمة مع بعضها كما هو واضح في العمل أذ وجود تلك الأسلاك أو القضبان المعدنية المثبت عليها العمل بالكامل فوق القاعدة الخشبية. كما وحققت تلك التركيبة فضاء للعمل، كما واتبع النحات في تنفيذه العمل الأسلوب التعبيري من خلال تجريده للأشكال العضوية محققاً شكلاً يسمو إلى الرقي وعدم التشخيص.

مستل من مقال طويل للباحث