الشاعر الكبير على محمود طه يتحدث عن:

Monday 26th of September 2016 07:00:10 PM ,

كان زمان ,

* امارة الشعر
* شعر المناسبات
* بين الطبيعة المصرية والغربة
* الشاعر ومهماته
* شعراء كسالى
في العمارة المواجهة لدار سينما مترو، حيث صخب القاهرة وضجيجها.. يعيش الملاح التائه علي محمود طه، ذلك الشاعر الساحر الذي غنت الناس اشعاره وترنمت باغانيه.

لقد خطر لي عدة مهمات ان اقوم بزيارته ولكنني كنت احجم عن هذه الزيارة في كل مرة، لانني اعرف ان شاعرنا مريض، واشق شيء على نفسي ان ارى انسانا عزيزا على نفسي راقدا في الفراش.
واخيرا استجمعت قواي وصعدت الى منزل الشاعر.. لكي اطمئن على صحته.. ففتح لي الباب خادم نوبي وقادني الى غرفة الاستقبال فجلست مدة غير قصيرة لا اسمح حولي غير الصمت. لان الشاعر يعيش وحيدا في ذلك الوكر الهاديء.
وبينما كنت اتأمل اللوحات الفنية التي زينت بها جدران الغرفة، واقلب في الكتب التي تناثرت هنا وهناك بلا حساب رأيت شاعرنا الكبير يدخل على مرحبا وقد بدت عليه دلائل الصحة، فحمدت الله اذ رأيته على هذه الحال، واثرت ان يكون حديثي معه عن الشعر والفن والادب دون ان اطرق موضوع المرض!
إمارة الشعر
قلت له:
إن دنيا الفن قد وجت شؤالا في سهرة شعراء الاغاني اثناء اجتماعهم بدارها، قالت فيه: "هل انجبت مصر شاعرا بعد شوقي؟".
فاجاب الشاعر صالح جودت:
- إن اقرب الشعراء لشوقي من بين شعرائنا الان هو علي محمود طه، ولكن البعض قد عارض في هذا الرأي ورشح كلا من بشارة الخوري وعمر ابو ريشه؟؟
وهنا اعتدل في مجلسه وقال وهو يشعل لي سيجارة:
- بودي ان اشكر صديقنا الشاعر العاطفي الغنائي صالح جودت، وليس يهمني ان اكون اميرا للشعر بقدر ما يهمني ان اكون عند عشاق الادب وقراء الشعر الشاعر المفضل.
فقلت له:
قرأت رأيا في شعرك لشاعر العراق جميل صدقي الزهاوي اشارت اليه شاعرة عربية في احدى مجلاتنا الادبية، وهو يعتبرك فيه الشاعر المفضل عنده بعد شوقي.
- نعم .. اطلعت على هذا الرأي، دون ان اطلع على نصه الاصلي في حديث للمرحوم جميل صدقي الزهاوي، ولكن بعض اخواننا من ادباء العرب، اخبرني به ومنهم صديقي الاستاذ اكرم زعيتر، ولا يسعني إلا ان اعتز بهذا الرأي ، فان الزهاوي من شعراء العربية المفكرين اصحاب الخيال البعيد!
شاعر زمانه
ثم قال:
- اعود فاكرر لك القول: ان لقب الامارة في الشعر، يجافي طبيعة هذا الفن الرفيع، وان شوقي رحمه الله، قد قلدته الامم العربية لقب الامارة قبل مصر، مع الاعتراف بانه كان شاعر زمانه، وفي الحق ان الامم العربية لم تغال في ذلك، لان شوقي كان حفيا بكل ما اضطرب فيها من الاحداث الجسام فكان ترجمان الشعر العربي في تاريخ عظائم الرجال، وكانوا يعتبرونه الشاعر المعبر عن شعور مصر، ازاء العروبة والاسلام!
وهنا لمحت نسخة من جريدة البلاغ وبها قصيدة للشاعر تزيد عن الستين بيتا يكرم فيها البطل فوزي القاوقجي الذي عاد الى وطنه سوريا مارا بمصر بعد اضطهاد وتشريد واغتراب زهاء العشرين عاما قضاها في محاربة الاستعمار الذي يكافح في سبيله كل بلد عربي، فابديت اعجابي بقصيدته، فقاطعني قائلا:
- كنت اقاوم المرض وما تمنيت على الله اكثر من فسحة في الاجل لأم هذه القصيدة التي ظلت روحي تضطرب باثارتها، اني من دعاة الكفاح العملي في سبيل انقاذ الشرق من ربقة الاستعباد وقد وجدت في حياة فوزي القاوقجي الجندي العربي الباسل الذي لم يحفل بالموت والعذاب، والتشريد والحرمان هائما في صحارى الشرق محاربا بسيفه، سافكا دمه في هذا السبيل ، انا في حاجة الى مثل هذه البطولة والرجولة، وغدا سيحتاج الشرق الى الكثير من طراز هذا الرجل.
دع عنك من يقول ان هذا من شعر المناسبات، فان للشعراء قلوبا تخفق كسائر الناس يحب اوطانهم، وان لأوطانهم حقوقا.. انه من شعر النفس لأننا نقوله بلا تكلف او تعمل ، لانه يتفجر من صميم احساسنا العميق بقوميتنا ووطنيتنا ، وإني لآسف ان اقول لك إن الكثيرين من شعرائنا المجيدين اصبحوا لا يحفلون بامثال هذه الحوادث. وانا لا اتهمهم بعدم التأثر بها، ولكن اعيب كسلهم الادبي، الذي تتهمنا به الاقطار العربية، والذي يجعلهم يبتسمون حينما تثير الكلام عن إمارة الشعر؟
وهنا رأيت هذا الحديث قد اثار شجون الشاعر، فاردت ان اهرج به على حديث آخر طريف، فقلت له:
ملهمات الشاعر
وهل في حياتك امرأة الهمتك الشعر؟
- في حياتي اكثر من ملهمة: الاولى الهمتني غنائيتي في "كرنفال فينيسيا" وهي فرسوفية الاصل ، والثانية امريكية وقد الهمتني قصيدتي في بحيرة كومو، وجاءت الثالثة تحت سماء مصر في غضون الحرب فالهمتني صفحات من الحب في ديواني الأخير "الشوق العائد".
اما الملهمة المصرية.. المصرية لحما ودما فلم التقي بها بعد. ولعل في مصر ملهمات، ولكن واحدة منهن لم تظهر بعد في افق حياتي، ولا زلت في ارتقاب هذه الموعودة.. "ملهمتي المنتظرة".
اما غيرهن فكن من السوائح الجميلات اللاتي يرفهن من العصب الانساني في ساعات الضجر والساعة ويروحن من النفس في اوقات فراغها وظمنها الى محي او سمير!
وهناك نوع آخر منهن ، وهو الذي قلت فيه:
"الشاردات الصاعدات مع الضحى
الطاردات وراء كل ظلم "
"هن اللواتي إن صحوت فانني
منهن طالب مهرب وسلام"
"اخمدت فوق صدورهن شبيبتي
وذبحت بين عيونهن غرامي"
اعادك الله منهن وكتب لك السلامة.

مجلة انغام الفن - 1951