إسماعيل فتاح الترك.. اكتمال العبادة بزواج الصناعتين

Wednesday 24th of August 2016 06:46:48 PM ,

عراقيون ,

خالد خضير الصالحي
ان اهم المنطلقات الأساسية التي احاول ان ابني عليها رؤيتي النقدية للفن التشكيلي، بصفته عملية ادراك حسي تحولي، هي جزء جوهري من النظرة الطوبولجية للفن التشكيلي،
ولفن الرسم بشكل خاص، وان آلية إنتاج الخطاب التشكيلي قد لا تختلف عن آلية إنتاج النصوص ومن ثم إنتاج المعرفة على أساس تلك النصوص، وتتجسد بنمطين من النتائج التي تفرزها تلك الآلية:

أولا: حينما تـنبع سلطة إنتاج الخطاب التشكيلي من اشكال الواقع، أي حين نعتبر الرسم تشبيها ونقلا لموجودات الواقع بصفتها (النصوص الأولى التي تـنتج على أساسها الهوامش)، عندها يبدأ الرسم بإنتاج أعمال تشبيهـية، فتـتسلل البنى الحكائية - وهي اعتبارات خارج بصرية وذات طبيعة أيديولوجية - وتبدأ بإزاحة البنى الجمالية، وهذا هو حال نتاج واسع يحاول ان يضع تقليد الطبيعة هدفه الأول، نستثني من هؤلاء قسما نصنفهم من ضمن، (رسامي المادة) وهي تسمية قد يستغربها الكثيرون ان نشمل بهذه التسمية بعض الرسامين (الأكاديميين)، ونعني بهم اولئك الرسامين الذين يفهمون الرسم كونه سطحا تجرى عليه تجارب الأستخدامات اللونية التقنية على أشكال الواقع، اي ان المماثلة مع اشكال الواقع ليست هدفا، بل هي وسيلة، ومن هؤلاء: فائق حسن والدكتور خالد الجادر على سبيل المثال، فهذان الملونان، رغم الأختلاف الكبير في اسلوبيهما، كانا يفهمان الرسم بصفته تجربة تبدأ وتنتهي بالأستخدامات التقنية اللونية على سطح اللوحة.
ثانيا حينما يبدأ الابتعاد عن فهم مهمة الرسم من كونه تقليدا لشيء آخر، الى كونه نتاجا لشي مستقل، سيؤدي احيانا إلى جعل خطابات الرسامين السابقين هي (الخطابات الأولى) التي يستمد الآخرون (نصوصهم) منها، اي ان تكون انساق الفن المتبعة إطارا مرجعيا، وهذا كان احد (قوانين الفن الحديث)، الذي وضعه أندريه مالرو، وأكد فيه (ان الرسام، في مراحله المبكرة، يقلد أشكال الواقع، بينما يقلد، في مراحله المتقدمة اللاحقة، أشكال الفن).
لقد زاوج اسماعيل فتاح الترك صناعتي النحت والرسم معا حتى اكتملت عنده العبادتان، ولا اعني بذلك ان النحاتين لا يرسمون، فالنحاتون رسامون بالطبيعة، والرسامون قد ينتحتون، فهنري مور و جياكومتي رسموا ومايكل انجيلو وجواد سليم رسموا ايضا، لكن هنالك فرقا شاسعا بين مارسمه هؤلاء وهؤلاء، فقد رسم الأولان (مور وجياكومتي) ما احتاجا اليه من مخططات اولية (سكيتجات) هي عبارة عن مشاريع نحتية (يدونها) النحات كمشاريع قادمة ينجزها حين تحين الفرصة، بينما قدم الآخران (انجيلو وجواد) جهدا رؤيويا نبوئيا بالرسم، وانها لمفارقة ان الرسامين حينما نحتوا غيروا معالم النحت تماما، فثورة النحت كانت شرارتها ومحركها الأكبر اولئك الرسامين الذين نحتوا (= بيكاسو مثلا)، بينما كانت مساهمة النحاتين الذين رسموا متواضعة في احداث تلك الثورة في المنجز الآخر! وهذا بطبيعة الحال ليس حكما مطلقا، بل هو حالة عامة مقارنة. ان ذلك راجع برأيي الى طبيعة النحت العملية ومحدودية طاقاته التعبيرية، قياسا الى الطاقة التعبيرية الأستثنائية للرسم، مما جعل الأستعارات الرؤيوية التي يستلها النحت من الرسم توسع طاقاته التعبيرية، بينما قد لا يضيف وهم البعد الثالث الى الرسم شيئا خطيرا، سوى انه سيكون مجسدا بالنحت .
فهل تنطبق تلك الآلية في انتاج الرسم عند اسماعيل فتاح الترك على ما ذكرناه؟
لقد قضى اسماعيل فتاح الترك سنواته الطويلة السابقة نحاتا انجز العديد من النصب، بعضها انجزه، يطابق فيه اشكال الواقع وهو نمط من النحت لا يعنينا هنا (وهي اعمال النصب البرونزية للشعراء:الرصافي، الكاظمي، ابونؤاس، وتمثال الواسطي)، كما لا يعنينا هنا ايضا نمط آخر اختط فيه خطا آخر مفارقا لكامل تجاربه السابقة وتجارب النحت العراقي ومنه نصب الشهيد.
ان ما يهمنا هنا هو نمطا من المنحوتات (نصب برونزية منها رليف برونزي لواجهة وزارة الصناعة وغيرها)، وقد انجزها وهو (يحرّف) الأشكال الأنسانية، بدافع حسي تحولي نحو اشكال مؤسلبة اعتورها (الخراب) الذي لا يمل زاحفا على الحياة في كل لحظة، و شخوص لا ملامح لها، عمياء مستكينة مستقرة بثبات في اماكنها التي لم تغادرها منذ ان رفع الفنان يده منها، وقد اصابها الضرّ والنخر وغارت فيها شقوق حزت واجهتها بفضاضة، شخوص مؤسلبة، أطول من (اشكال الواقع) وأغرب، تفارق شخوص جايكومتي بامتلائها، وهنري مور بنحافتها.
وهذا النمط من منجزه هو الذي ساهم بالقسط الأكبر في تقديم النحات اسماعيل الترك كأحد مجددي النحت العراقي الستينيين التعبيريين، من ذات الجيل الذي مثله بقوة: النحاتون اتحاد كريم و نداء كاظم، وفي الرسم: علي طالب و صالح الجميعي و سالم الدباغ ورافع الناصري وضياء العزاوي ومحمد مهر الدين.
بدأ الترك يطل على الواقع التشكيلي العراقي، منذ عدة سنوات بمعارض خصصها للرسم، وهو يسلك فيها طريقا يماثل ذاك الذي يسلكه رسامو المفروكات (Frottage) باستخدام تقنية (الأدراك الحسي التحولي)، لكن رغم ان الجميع يتّبع تقريبا نفس تكنيك إنجاز أشكالهم، ينتهي كلهم إلى شق مختلف من (قانون مالرو)، حيث يعود رسامو المفروكات مرتدين من أشكال سطح اللوحة إلى ما يماثلها من أشكال الواقع، ينما يتجه الترك ببحثه صوب ما يماثل مستحثاته من أشكال منحوتاته!! هو بالذات، أي ان الترك اتخذ تجربته النحتية (نصا أول) يشكل معينا فهو يستل منها ماشاء من اشكال وبنى لوحاته، فكان يصنعها من الطين او من البرونز او اية مادة اخرى، فأذا به الآن يستبدل الألوان بتلك المواد، فتحل الألوان والخطوط محلها، لكن بنيتها الشكلية تبقى هي ذاتها، بينما تتلبسها بعض من ملامح الوجه الأنساني التي نفتقرها في منحوتاته، والتي هي لا نفع منها هنا، فلاقدرة لعيونها على الرؤية، انها فتحات سوداء غائرة، في وجوه مجدورة يملؤها الندب والبثور!!، بينما يستعير الوانه من الوان البرونز ذاته وكأنه يرسم لوحاته به!