مذكرات التابعي.. عندما كان روميل يستعد لدخول مصر

Monday 13th of June 2016 05:28:31 PM ,

كان زمان ,

وكان الساسة من خصوم الوفد ومصطفى النحاس يرون ان رئيس الديوان احمد محمد حسنين لم يعرف كيف ينتهز فرصة هذا الخلاف الذي نشب في صفوف الوفد وفرق بين رئيسه مصطفى النحاس وسكرتيره العام مكرم عبيد.. وانه كان من واجب حسنين باشا ان ينتهز الفرصة ليطوح بالوزارة كلها وينتقم لحادث 4 فبراير.

وكان من بين اصحاب هذا الرأي السيد علي ماهر"باشا"الذي كان معتقلا يومئذ في السرو.. فقد قابلت احد اصدقاء علي ماهر في جريدة الاهرام وقال لي ان الاستاذ محمد علي ماهر زار اباه علي ماهر في معتقله بالسرو، وقد وجد اباه مسرورا جدا من تطور الحوادث – اي من الخلاف الذي وقع في صفوف الوفد – وقد قال له ابوه"رفعة"علي ماهر باشا.. (لو كنت اليوم رئيسا للديوان لكنت طيرت مصطفى النحاس من الوزارة من 24 ساعة.. ولكن في رئاسة الديوان دلوقت واحد خرنج!)..
و"خرنج"معناها عبيط او معتوه ضعيف.. وكان يقصد حسنين باشا!
وكان من رأي علي ماهر باشا انه كان يجب على"الخرنج"احمد حسنين ان يشير على الملك فاروق يوم قدم اليه النحاس باشا استقالة الوزارة باستدعاء زعماء الوفد – وزعماء الاحزاب الاخرى – لاستشارتهم في الموقف على اساس ان هناك انشقاقا في الوفد وهو الهيئة التي تستند اليها الوزارة في الحكم.. ثم يشير على الملك باخراج النحاس ومكرم معا من الوزارة..!!
ولكن"ألخرنج"لم يعرف كيف ينتهز هذه الفرصة!
وقال لي صديق علي ماهر باشا انه يقول كذلك..
"التابعي كف عن الكتابة عني لانه احس بان الرأي العام معي"!
وقلت انا.. كلا.. لقد كففت عن الكتابة عن رفعته لا لان الرأي العام معه كما يقول.. بل لانه معتقل الان ولا حول له ولا قوة!
***
وفي مقابلة اخرى قال لـ بعض اصدقاء علي ماهر باشا انه يشكو من الام شديدة في اسنانه وانه يصرخ احيانا من شدة الالم ويقسم على انه سوف ينتقم من مصطفى النحاس الذي اعتقله ويعلن انه سوف يحاكمه امام محكمة عسكرية بتهمة الخيانة العظمى وان المحكمة سوف تحكم على مصطفى النحاس بالاعدام!
وكانت الاشاعات الذائعة يومئذ في دوائر القصر وبين انصار واصدقاء علي ماهر ان رفعته هو المرشح الوحيد لرياسة الوزارة بعد دخول جيوش المحور مصر.. وهزيمة الجيش البريطاني وانسحابه من مصر!.. وكان الرأي السائد يومئذ ان الانجليز لا بد مغلوبون على امرهم وان روميل سوف يدخل مصر!
***
وكان روميل قد بدأ يتحرك في شهر يناير..
ومضت المعارك مانعة بقية فصل الشتاء.. فلما اقبل الربيع بدأت الحالة تتطور بسرعة في مصلحة جيش المحور – المانيا وايطاليا- وضد صالح بريطانيا وحلفائها..
ومني الجيش البريطاني بسلسلة من الهزائم.. لعل اشدها واخطرها كانت معركة جسر الفرسان التي خسر فيها الجيش البريطاني معظم دباباته وانسحب تاركا الطريق مفتوحا امام الماريشال روميل..
واحسن كل من في مصر ان الحالة خطيرة جداً.. فقد سقطت طبرق الحسن المنيع بدون مقاومة تذكر.. ومن بعدها سقطت الضيعة.. واحتل الجيش الالمان السلوم.. وزحفت طلائعه نحو مرسي مطروح.. والاسكندرية!
وفي صباح السبت 27 يونيه 1943 – وكانت الشائعات المزعجة تملأ البلد – زرت حسنين في داره فلم اجد، وقيل لي انه ذهب يعود ابنه هشام في المستشفى فقد اجريت له عملية الزائدة الدودية..
وانتظرت حتى حضر حسنين قلت له انني سألت هذا الصباح وزير العدل صبري باشا ابو علم عما اذا كان النحاس باشا قد ابلغ جلالة الملك تطورات الموقف في الصحراء الغربية واعطاه صورة صحيحة عن الحاالة.. ام تركه يستقي الاخبار من الخارج كما حدث يوم اغلاق الحدود!..
وهل هو مثلا ابلغ الملك تفاصيل ما دار في الاجتماع الذي عقده"رفعته"في يوم الاثنين الماضي 22 يونيه مع السفير ما يلزلامبسول والجنرال ستون؟.. وان صبري ابو علم باشا قال لي ان النحاس باشا قد ادى في هذه المرة واجبه وابلغك – انت ياحسنين باشا – كافة التفاصيل..
قلت هذا لحسنين فابتسم بمرارة وقال: ابدا!.
ثم مضى يقص علي التفاصيل قال:
عرفت ان النحاس باشا عقد اجتماعا مع من ذكرت، وانتظرت ان يتصل بي فور انتهاء الاجتماع ولكنه لم يفعل ومضى العصر.. ثم المغرب.. واقبل الليل، ورفعته لم يتصل بي.. وسالني الملك، هل اتصل بك رئيس الوزراء"فقلت: كلا!.. ولعله يجمع الاخبار والتفاصيل وكل ما يمكن جمعه لكي يعطينا صورة كاملة عن الموقف..
ولكن هذا كان في الحقيقة اعتذارا مني عن النحاس باشا لاني كنت انتظر ان يتصل بي ويطلب مقابلة الملك لكي يبلغه ما حدث. ولكن الذي حدث ان رفعته اصدر بلاغا رسميا عن الاجتماع المذكور، ونشرت الصحف البلاغ، وكان ذلك قبل ان يطلع الملك على شيء ما.
وهكذا قرأ الملك البلاغ الرسمي في الصحف كما قرأه الناس! ومضى حسنين باشا في روايته يقول:
وفي صبح اليوم التالي لم استطع صبرا، والواقع انني اهملت او تهاملت في اداء واجبي كرئيس للديوان لانه كان يجب علي ان اتصل بالنحاس باشا قبل ذلك واساله، ولكنني راعيت الذوق الحسن فلم افعل.. ولكني وجدت انه لم يبق موجب للذوق.. فكلمت بالتليفون امين عثمان باشا وبسطت له وجهة نظري.. وبعدها بقليل اتصل بي النحاس باشا وقال لي:"انت فين؟ انا بافتش عليك... وكلمني كلاما عموميا عن الحالة وانها مطمئنة! وسألني ما اذا كنت اريد ان اقابله فقلت له: احب ان اقابل رفعتك، فقال:"بس انا عندي برلمان النهاردة، قلت له: اذن ففي اي وقت يناسبك!.. ثم حدثني عن البيان الذي سيلقيه في البرلمان وسألني هل يرسل لي نسخة منه فقلت نعم واكون شاكرا لو فعل!
وهكذا انتهى حديث النحاس باشا معي بالتليفون..
وبعدها بقليل كلمني امين عثمان بالتليفون وقال لي:"انت مش عايز تقابل النحاس باشا؟"فقلت له:"ازاي! بالعكس.. انا عاوز اقابله"قال:"هوه فهم كده!".. قلت:"فهم غلط!.. انا غايته احببت ان لا اربطه بموعد او ميعاد وتركت له اختيار الوقت المناسب".
واتفقنا على موعد المقابلة ثم ابدي حسنين باشا رأيه في البيان الذي القاه النحاس باشا في البرلمان فقال انه فيما عدا ثلاث او اربع فقط فان البيان المذكور يبدو كانما قد كتب في السفارة البريطانية، وانها لعجيبة ان يقول النحاس باشا في بيانه انه مطمئن بينما الانجليز انفسهم يسمون ما حدث"كارثة"ويصفون الحالة بانها خطيرة، وجرائد اليوم تقول نقلا عن جرائد لندن ان الزحف الالماني لو اوقف يكون هبة من الله! ومع ذلك فان النحاس باشا يقول انه مطمئن!
***
مقابلته مع النحاس
ولم يقل النحاس باشا في اول الامر لحسنين اكثر مما جاء في البيان الذي كان القاه امام مجلس البرلمان وهو ان الحالة مطمئنة وان الانجليز سوف يدافعون عن مصر، الى آخر مدى". ولقد حاول حسنين ان يعرف من النحاس باشا حدود هذا المدى، وهل هو يقف مثلا عند مرسى مطروح؟ ام ان الدفاع، الى آخر مدى، اي الحرب سوف تجري في داخل البلاد؟
ولكن النحاس باشا رفض المناقشة في اماكن وقوع هذا الاحتمال!
وهنا يقول حسنين رحمه الله: قلت له: نفرض.. لا قدر الله.. لا سمح الله.. يعني لو دخل الالمان مرسى مطروح وزحفوا بعدها.. ولكن النحاس باشا قال: مش ممكن.
وعاد حسنين باشا يقول:"يعني لا سمح الله.. لا قدر الله.. وربمنا ما قدر.. انما يعني لو حصل..".
فقال النحاس باشا: "يمكن نخلي المدنيين ساعتها يتركوا المدن الى القرى"؟!
آه!.. يعني الحرب تدخل مصر.. وهذا هو الخراب!
***
وكان حسنين يروي لي تفاصيل هذا الحديث وهو منفعل وحائر في فهم عقلية النحاس باشا.. وكيف انه اصبح آلة في يد الانجليز! حتى انه لا يرى الا بعينهم، وقد تحدث حسنين طويلا في هذا المعنى وكان مما قاله:"النحاس باشا في يد الانجليز خالص لانه يعرف انه لو كان الامر بيد البلد لما بقى في رياسة الوزارة خمس دقائق!"
ثم انتقل حسنين بالحديث الى الشائعات التي تقول بان الجيش الانجليزي في الصحراء الغربية لا يريد ان يحارب!
وقارن بين موقفهم اليوم وموقف الجنود الايطاليين ايام الجنرال وبقبل ايام كان جندي بريطانيا يحارب بشجاعة.. وجنود ايطاليا يهربون! وها هي ذي الاية قد انعكست.. فاصبح الانجليز يهربون.. وجنود ايطاليا والمانيا وراءهم!.. ثم قال ان طيارا انجليزيا كان زاره في داره وورطه حسنين في الحديث حتى اعترف له بان هناك امرا مريبا في استسلام حسن طبرق الحصين فقد قال There is something fishy وان هذا الشيء المريب – كما قال حسنين – هو ان الجيش البريطاني رفض ان يقاوم وسلم للالمان من غير قتال.
ومضى حسنين يقول:
- فاذا كانت هذه هي الحالة فكيف يكون النحاس مطمئنا كما يقول؟.. بل لعل روميل على علم بحقيقة الحالة وانهيار معنوية الجيش البريطاني ولهذا السبب تراه يسرع في زحفه حتى لا يعطي الانجليز فرصة لجمع جموعهم ولم شملهم.. وقد لا يبعد ان يدخل على – في اي وقت – في مكتبي ضابط الماني يرفع يده بالتحية ويقول: هيل هتلر!

الجــــيل/ تشرين الأول - 1955