أتشيبي شيخ قبيلة أدباء إفريقيا

Tuesday 19th of April 2016 06:34:07 PM ,

منارات ,

طلعت الشايب
توقف قطار نوبل للآداب أربع مرات في القارة السمراء، وذلك منذ منحها لأول مرة للفرنسي سولي برودوم (1839 - 1907) في سنة 1901؛ ففي سنة 1986 حصل عليها النيجيري ولي شوينكا (1934)، وفي 1988 كانت من نصيب المصري نجيب محفوظ (1911 - 2006)، وفي 1991 ذهبت إلى كاتبة من جنوب إفريقيا هي نادين جورديمر (1923)، ثم عادت في 2003 مرة أخرى إلى جنوب إفريقيا ليحصل عليها جون ماكسويل كويتزي (1940).

وعلى مدى ربع القرن الأخير، كانت تتردد على قائمة المرشحين لها أسماء افريقية أخرى، لعل أبرزها النايجيريان شينوا أتشيبي (1930 - 2013)، وبن أوكري (1959) والصومالي نور الدين فرح (1945).
وحيث إن الجائزة لا تُمنَح سوى لكتّاب على قيد الحياة، ينتقل اسم أتشيبي الذي رحل عن عالمنا مؤخراً (22 مارس الماضي) من بورصة التكهنات السنوية إلى قائمة «من كانوا يستحقونها ولكن!"سواء أولئك الذين أدركهم الموت قبل أن تدركهم الجائزة أو مَنْ تَمَّ تجاهلهم لأسباب في بطن لجنة الجائزة المتخمة بالحسابات والأسرار، وهي قائمة طويلة تضم أسماء مازالت تملأ دنيا الإبداع وتشغل القراء والنقاد والمترجمين والناشرين إلى اليوم. (مثل تولستوي، وغوركي، وتشيخوف، وزولا، وبروست، وجيمس جويس، ولوركا، وإبسن، وكافكا، وناظم حكمت، وبرخت وبورخيس، وعزيز نيسين... وغيرهم).

أما أتشيبي، أو شيخ قبيلة أدباء إفريقيا، كما وصفته نادين جوريمر، فكان قد لفت الأنظار إليه عندما أصدر روايته الأولى «الأشياء تتداعى» THINGS FALL APART في 1958 (قبل عامين من استقلال بلاده) لتتوالى بعدها أعماله الروائية، التي ارتادت آفاقاً جديدة في الكتابة الإفريقية (باللغة الإنجليزية) لتكون إضاءات هادية على طريق جيل جديد من كتّاب القارة الذين يبحثون عن أشكال جديدة ووقائع مختلفة، كما جاء في تقرير لجنة تحكيم جائزة «مان بوكر» التي منحت له في 2007، تقديراً لمسيرته الإبداعية على مدى نصف قرن تقريباً.
كانت «الأشياء تتداعى»، تحديداً، هي الدجاجة التي باضت له الذهب والشهرة بعد ترجمتها إلى أكثر من خمسين لغة وبيع أكثر من عشرة ملايين نسخة منها، وإدراجها ضمن المناهج الدراسية في المدارس والجامعات الأوروبية والأميركية، كما أنها مازالت بين أكثر الروايات المقروءة في العالم.
تمثِّل هذه الرواية مع الروايات الثلاث الأخرى التي صدرت بعدها (لم يعد ثمة راحة - NO LONGER AT EASE في 1960، وسهم الله - ARROW OF GOD في 1964، ورجل من الشعب - A MAN OF THE PEOPLE في 1966)، رباعية توثق تاريخ قبيلة «الإيبو"التي ينتمي إليها، وذلك في الفترة ما بين 1890 و1965 بما تضمنته من صراعات اجتماعية وسياسية حادة وعجز جماهيري عن الفعل المؤثر، رباعية تتعامل مع التاريخ من منظور شخصي وجمعي، لكاتب لم يَحِدْ عن الاتجاه الذي حدده لنفسه منذ البداية باعتباره «عابد الأسلاف"الذي يمهد لمستقبل أفضل ولا يهرب من مواجهة قضايا إفريقيا المعاصرة، وإلا أصبحت الكتابة أشبه بدخان في الهواء على حد تعبيره.
الكاتب عند أتشيبي مواطن قبل أن يكون كاتباً، والرواية في مجتمع من النوع الذي يعيش فيه لابد أن تكون «حبلى برسالة» يحرص الكاتب على توصيلها. هذه الرسالة هي التأكيد على أن إفريقيا لم تكن فراغاً قبل مجيء المستعمر الأوروبي، وإنه من غير الصحيح على الإطلاق أن الثقافة لم تكن معروفة في إفريقيا وأن البيض هم الذين حملوها إليهم. بقي أتشيبي حتى آخر العمر على يقين من أن النقاد الغربيين يعملون على تهميش إفريقيا وأبنائها، وعندما كان المتابعون يستغربون تجاهل الأكاديمية السويدية له كل عام وحرمانه من جائزتها الكبرى، كان كثيراً ما يعزو السبب لموقفه الفكري ولسعيه الدائب إلى التحرر من نمذجة إفريقيا في الغرب، والمعروف أنه كان قد انتقد «نايبول» في 1985 ووصفه بأنه «كاتب لامع باع نفسه للغرب»، وتوقع أن يكافأ بنوبل للآداب أو بغيرها ذات يوم.. وقد كان، إذ حصل نايبول على الجائزة في سنة 2001.
في رواية «سهم الله»، يستكمل أتشيبي أحداث «الأشياء تتداعى» بشخصيات جديدة، بعد مرور ربع قرن وزوال صدمة المواجهة الأولى وتغير الظروف في ظل واقع استعماري جديد. وإذا كانت الرواية الأولى تنتهى بانتحار البطل بعد هزيمة حضارة الجماعة أمام حضارة المستعمر، فإن «سهم الله"تنتهي كذلك بهزيمة الكاهن - الرئيس الذي يجمع بين السلطتين الدينية والسياسية اغتصاباً، والقائد هنا مهزوم أمام الغازي الأجنبي وأمام أبناء جماعته في الوقت نفسه.
في الروايتين الأخريين، تظهر نايجيريا الجديدة في مواجهة صدمة جديدة، صدمة الاستقلال وانتشار الفساد والفوضى وتوالي الانقلابات وما يتبع ذلك من تغيرات اجتماعية واقتصادية وصراعات فكرية وثقافية، في مجتمع شَوَّه الاستعمار تاريخه وثقافته، وسيطرت عليه نخب جديدة حَلَّتْ محل المستعمر السابق، وورثت عنه أسوأ ما فيه.
بعد توقف عن كتابة الرواية لفترة استمرت نحو عشرين عاماً، (كان يكتب أثناءها قصصاً للأطفال ومقالات وقصائد) أصدر أتشيبي روايته الخامسة «كثبان النمل في السافانا» - ANTHILLS OF THE SAVANNAH في 1987. كان ذلك التوقف عن كتابة الرواية في أواخر الستينيات أثناء الحرب الأهلية في بلاده (انتهت في 1970) حيث «لم يكن هناك وقت لكتابة الرواية» - كما يقول - «فالظروف القائمة آنذاك كانت تفرض عليّ أن أقول ما أريد بإيجاز شديد في مقال أو قصيدة أو قصة قصيرة [... ] كانت تلك الحرب، الأكثر فظاعة في التاريخ الحديث قد تركت في نفسي أذى للحد الذي بدت لي فيه الرواية عملاً تافهاً».
رواية كثبان السافانا عن نظام عسكري في دولة إفريقية متخيلة، تتناول أحداثها الحاضر في علاقته بالماضي، بالتاريخ، وليس من الصعب أن يعرف القارئ أن هذه الدولة المتخيلة هي نايجيريا وأن العمل يتبع خطوط موضوعات روايات أتشيبي الأربع السابقة، «فهي ذات القصة.. ذات المشكلة» كما يقول هو شخصياً «وإن كانت من زوايا مختلفة، بحيث إنك إذا وضعتها كلها معاً تصبح أكثر اقتراباً من القصة الحقيقية لما يجري».
كانجان، الدولة المتخيلة في كثبان السافانا، تقع في غرب إفريقيا، حيث يمسك بالسلطة رئيس جاء بانقلاب عسكري. الاضطرابات عامة، والانتفاضات الطلابية على أشدّها، والتضخم صارخ، والفساد منتشر، والعنف سيد الموقف في كل مجال. رئيس الدولة الفاشل (سام) يبحث عن كبش فداء يحمِّله مسؤولية هذا الفشل، فهل هو صديقه القديم «كريس أوريكو"وزير إعلامه المقصِّر الذي لم ينجح في تحسين صورته أمام الشعب؟ هل هو «أيكم أوسودي"الشاعر، رئيس التحرير صاحب المقالات النقدية التي جعلت الناس ينصرفون عنه؟ «كريس"و«أيكم"شخصيتان أصيلتان، مرسومتان بدقة بالغة، وهما أكثر إقناعاً من شخصية «سام"الباهتة التي لا تستطيع أن تفرض نفسها سواء على الرواية أو على الطبيعة المتخيلة لدولة كانجان بما فيها من توترات قبلية. على لسان رئيس التحرير، الشاعر، تنطلق الكثير من الآراء التي تعبر عن أفكار يمكن نسبتها لأتشيبي. على أن أبرز ما في رواية كثبان السافانا، أو الجديد الذي جاء به الكاتب على نحو يميزها عن أعماله السابقة، هو الدور المركزي للمرأة، النساء هم الأمل في مستقبل أفضل لأسباب كثيرة، ليس أقلها القدرة على إنجاب جيل جديد يمثل إمكانية استيعاب تجربة الماضي والتعلم منها، الميلاد يؤكد أن النظام سوف يخرج من بين أنقاض الفوضى والحياة، من بين مخالب الدمار والموت. «بياتريس أوكاه»، صديقة كريس التي تعلمت في لندن، يرفد كل تفكيرها وسلوكها التزام مخلص بقضايا المجتمع كله، ومن خلال هذه الشخصية الفذة والفريدة تتم مناقشة قضايا عدة تتعلق بدور المرأة في تحرير جنسها والمجتمع بأسره؛ كما أنها الأقرب من بين كل شخصيات أتشيبي النسائية إلى تكوينه الفكري والثقافي.
هي الأكثر نضجاً بما تؤكده من أن المرأة الحامل ليست مجرد وعاء لأطفال لم تولد بعد. يقول أتشيبي إنه حاول في هذه الرواية «تأكيد دور المرأة في إخراجنا من أزمتنا المجتمعية، ذلك الدور الذي يتسق تماماً مع ثقافتنا التقليدية، النساء لا يتدخلن في السياسة إلا بعد أن ينكشف فشل الرجال وإفسادهم كل شيء. يصبح المجتمع في حالة شلل تام، عاجزاً عن الحركة إلى الأمام أو حتى إلى الخلف وهنا تتدخل النساء. هكذا كانت القصص دائماً. وهو ما حاولت أن أفعله»، ويتذكر في هذا السياق أحد أفلام السينمائي «صمبيني أوسمان"الذي يصور هذا الموقف، عندما يناضل الرجال وينهزمون أمام المستعمر الفرنسي، ويعجزون عن الدفاع عن حقوقهم فتتقدم النساء ويحملن الرماح والحراب ويبدأن رقصتهن الخاصة، ويضيف «هذا إذن ليس في ثقافة الإيبو فحسب، يبدو أنه شيء تعلمناه من الشعوب الافريقية الأخرى.».
عندما كتب أتشيبي روايته الأولى «الأشياء تتداعى» كان قد أخذ عنوانها من قصيدة للشاعر الأيرلندي ييتس كما أسلفنا، وعندما كتب روايته «لم تعد ثمة راحة» استوحى عنوانها من قصيدة لـ «إليوت» عن المجوس الثلاثة التي يعتبرها من عيون الشعر الإنكليزي، أولئك الناس الذين ذهبوا ثم عادوا، لم يكونوا يشعرون بأن هناك ثمة راحة.
أما عنوان روايته الخامسة «كثبان النمل في السافانا» فيحيل إلى حكاية من الموروث الشعبي لقبيلة الإيبو، مفادها أن النار بعد أن تكتسح وتحرق الأرض في حقول السافانا، لا تخلِّف سوى الكثبان التي يمكن أن نرى بداخلها المذكرات الحية التي تروي ما حدث.
خمس روايات مهمة، ومجموعة شعرية بعنوان «حذار يا شقيق الروح» أعيد نشرها في 1973 بعنوان «كريسماس في بـيـــــافرا»، تعبــــــِّر عن المأســــــــــاة الإنســــــانية للحــــرب - GIRLS AT WARE بعضها عن أهوال الحرب ومعظمها يتناول الصراع بين القيم الدينية والتقليدية والقيم العلمانية الحديثة، وعدد كبير من المقالات منها مجموعة بعنوان آمال ومعوقات: HOPES AND IMPEDIMENTS، ومسيرة طويلة مع الصحافة الأدبية والعمل الإذاعي والعمل الأكاديمي في بلاده وخارجها، وأكثر من عشرين دكتوراه فخرية من جامعات العالم. وبالرغم من هذه المسيرة الحياتية والإبداعية الثرية لا يذكر اسمه إلا ويقفز إلى الذاكرة عنوان روايته «الأشياء تتداعى»، ولم يكن ليزعجه ذلك الاحتفاء بالرواية الذي ربما يبدو وكأنه يختزله في عمل واحد. «لا أرفض أن تكون هي أفضل أعمالي، وربما لا أريد أن أقول ذلك. هي نوع من القصة الأساس لحالتي التي كانت تتطلب الاستماع إليها. كنت أريد أن أعيد حكي قصة التقائي بأوروبا على نحو مقبول لي. الروايات الأخرى ليس لها نفس الموقع في تفكيري، ولكن كل عمل حاول أن يكون مختلفاً، وأنا مؤمن بتعددية القصة الإنسانية وبأن ليس هناك طريقة واحدة لروايتها. هناك دائماً من سيرويها بشكل مختلف من المكان الذي يقف فيه.. من زاوية رؤيته، حتى إن الشخص نفسه الذي يغير مكانه سيرويها بشكل مختلف. في ذهني دائماً احتفاليات الرقص التنكرية لدى ناس الإيبو، لكي ترى جيداً ينبغي ألا تقف في مكان واحد وإلا فقدت الكثير من متعة المشاهدة. لابد من أن تتحرك وأعتقد أن تلك هي الطريقة التي يجب أن تروى بها قصص العالم.... من مواقع وزوايا مختلفة.».

سئل أتشيبي عن رأيه في إبداع شوينكا بعد حصوله على نوبل للآداب في 1986، فَعَبَّر عن احترامه له بالرغم من اختلاف الرؤى السياسية لكليهما، ثم استرخى قليلاً وهو يبتسم ليعيد على مسمع سائله حواراً دار في بلاده بعد إعلان فوز سوينكا:
* من هو أعظم كاتب نايجيري؟
- وولي سوينكا.
* ما أفضل أعماله؟
- «الأشياء تتداعى»

عن مجلة الدوحة 2013