قلب الظلام لجوزيف كونراد: رواية الاستعمار المرجعية بامتياز

Tuesday 12th of April 2016 07:42:01 PM ,

منارات ,

ابراهيم العريس
إذا كان الراحل إدوارد سعيد قد وجد كثراً يساجلونه، وغالباً عن حق، في كتاباته السياسية ومنها بخاصة كتابه «المؤدلج» «الاستشراق»، فإن نوعاً من الإجماع كان يسود من حول كتاباته الأدبية النقدية والموسيقية بحيث اعتبر رائداً كبيراً من رواد النقد العالمي في القرن العشرين. وهو بهذه الصفة أفرد لجوزف كونراد أكثر من نص مهم رابطاً أدبه بالكولونيالية

ما جعل كتابة سعيد تعتبر في مقدمة النقد الأدبي ما بعد الكولونيالي. وبالطبع كانت رواية «قلب الظلمات"لكونراد في مركز القلب من نصوص سعيد في هذا المجال. ونعرف على اية حال انه من جون فورد الى أورسون ويلز، ومن جون بورمان الى ستانلي كوبريك، حلم بعض كبار عباقرة الفن السابع في القرن العشرين، بأن يتمكن الواحد منهم يوماً من تحويل هذه الرواية الى فيلم سينمائي. بل كان من بينهم من كتب السيناريو فعلاً، كما كان من بينهم من أمّن جزءاً من الأموال اللازمة للإنتاج وبدأ يستعد لذلك فعلاً، حين وجد اموراً تحول بينه وبين تنفيذ حلمه. وهكذا، لعقود طويلة من السنين ظلت قضية «أفلمة» رواية جوزف كونراد هذه، واحداً من أكثر الأحلام السينمائية استحالة.
وظل الوضع على ذلك النحو حتى جاء فرانسيس فورد كوبولا، أواخر السبعينات ليحقق الحلم، ولكن في شكل موارب: نقل احداث الرواية من أفريقيا إلى جنوب شرقي آسيا (فيتنام تحديداً) وجعل الحرب الفيتنامية خلفية لتلك الأحداث. صحيح أن مناصري أدب كونراد الأنقياء استاءوا من هذا، لكن كوبولا أكد لهم ولغيرهم مع هذا، ان نقل الرواية من مكان آخر جاء تأكيداً لكونيتها ولأن روحها تنفع لكل مكان وزمان. ولم يكن كوبولا بعيداً من الصواب في فرضيته هذه. ومن هنا اعتبر ذلك الفيلم واحداً من أفضل النماذج في التعامل السينمائي مع نص أدبي كبير. والفيلم المعني هنا هو، بالطبع «يوم القيامة الآن"الذي اعتبر، بصرف النظر عن علاقته برواية كونراد، واحداً من أعظم الأفلام التي حققت عن الحرب الفيتنامية، بل واحداً من أفضل أفلام الحروب في تاريخ السينما.
وهنا، اذ نضع جانباً فيلم كوبولا، لا بد من ان نتساءل: ما الذي كان كل أولئك السينمائيين يرونه في نص «قلب الظلمات"عنصراً جذاباً لكي يُحوّل النص الى فيلم سينمائي؟ والجواب البديهي هو: كل شيء، البعد البصري والأحداث والبعد الروحي وقوة الشخصيات مجتمعة في بوتقة واحدة. ذلك ان «قلب الظلمات"تعتبر النموذج الأكمل لما ينبغي ان يكون عليه فن الرواية.
نشر جوزف كونراد روايته هذه في العام 1906، وكان على ابواب عامه الخمسين. وهو في «قلب الظلمات"كما في القسم الأعظم من رواياته السابقة عليها والتالية لها، عكس في العمل تجربته الشخصية كبحار تنقل من بلد الى آخر ومن قارة الى اخرى، يعيش بنفسه مغامرات استثنائية، ويسمع بأذنيه اغرب الحكايات. وفي هذا الأطار تنتمي «قلب الظلمات»، الى ذلك العالم السحري: عالم الحكي الذي يرسم الشخصيات ويحكي المغامرات من دون ان يعرف حتى الراوي ما اذا كان الذي يرويه قد حدث حقاً، او انه بني حكائياً من خلال التواتر والتراكم.
تدور أحداث «قلب الظلمات"في قلب الأدغال الإفريقية، وبطلها هو البحار مارلو الذي يناديه، منذ طفولته نهر رأى صورته على خريطة لجزء من القارة الإفريقية، وسحره فيه غرائبه وكون مجراه يتخذ شكل افعى تتسلل وسط الأدغال. لاحقاً حين يشب ذلك الفتى ويصير بحاراً، يتمكن من إقناع شركة تستغل أراضي تلك المنطقة الإفريقية بأن تسلمه قيادة مركب يتولى نقل العاج من قلب الأدغال الى المرافئ عبر ذلك النهر. وهكذا عبر سلسلة من المغامرات والكوارث والكوابيس يتمكن مارلو من الوصول الى حلم طفولته: قلب الأدغال الإفريقية، حيث مقر الشركة... لكنه يجد الفوضى تعم المكان وأخلاق الناس، وسط صمت مريع يبدو وكأنه صمت انتظار شيء ما سيحدث لا محالة. وفي خضم ذلك يكتشف مارلو اختفاء كورتس، مندوب الشركة في المنطقة فيواصل رحلته وسط بلاد العاج تطلعاً الى العثور عليه. وهكذا، فيما مارلو على المركب يسير به فوق مياه النهر يتولد لديه احساس بأنه بات خارج العالم وخارج الزمن، او بالأحرى كأنه في سفر الى بدء الخليقة. ومع هذا لا يفوته ان يجد في الصراخ البدائي الذي يطلقه السكان المحليون من حوله على جانبي النهر، ملامح انسانية نقية تبدو «كحقيقة فرغت من كل ما هو دنيوي أو زمني». وفي نهاية الأمر يصل مارلو وصحبه الى المكان الذي تبين لهم ان كورتس موجود فيه حقاً، فيواجههم ما يعتبرونه أروع كابوس واجهوه طوال رحلتهم: ان سكان المنطقة الأصليين، لا يريدون ابداً ان يسمحوا للبيض باستعادة كورتس، لأن هذا ليس أسيراً لديهم كما كان يخيل الى بعضهم، بل انه صار بالنسبة إليهم أشبه بالوثن المعبود، وهو ما كان أُخبر به مارلو سابقاً، لكنه آثر يومها ألا يصدقه. اما الآن فها هو أمام الحقيقة الكابوسية. فما العمل؟ إن كورتس كان وصل على سجيته اصلاً الى هذا المكان متطلعاً الى التبشير فيه بالدين المسيحي في اوساط السكان كفعل ايمان منه، لكنه وجد نفسه بدلاً من أن يضم السكان اليه في معتقده، ينضم هو اليهم في معتقداتهم، بادئاً بمجاراتهم في رقص ليلي طقوسي وجد نفسه ينجر اليه طوعاً ومن دون ان يدرك اولاً انه بهذا يخون الرسالة التي كان آل على نفسه تأديتها. صحيح انه، اذ تنبه لاحقاً الى ما حدث له، حاول ان يهرب مرات ومرات، لكنه كان احياناً يخفق، وفي احيان اخرى يستنكف من تلقائه. لقد عاش صراعاً عنيفاً في داخله. اما الآن فإنه يائس تماماً، لم يعد يعرف من هو ولا ماذا يريد. انه مريض ومنهك، بل على وشك ان يموت. لذلك يرفض ترك الغابة ومرافقة مارلو في رحلة العودة. غير ان هذا الأخير يتمكن من نقله الى القارب بالقوة وسط سخط السكان المحليين ودعوات نسائهم. وإذ يموت كورتس في خضم ذلك كله، يعثر مارلو على حزمة رسائل بين متاعه، يتبين له إنها رسائل كتبها كورتس لخطيبته لكنه لم يرسلها أبداً. وإذ يعود مارلو الى الحضارة، يتطلع الى لقاء الخطيبة وإعطائها الرسائل. لكنه اذ يجدها مغرمة بكورتس ولا تزال في انتظار عودته، يستنكف عن اخبارها بحقيقة امر الرجل، مكتفياً بأن يؤكد لها ان كورتس مات وهو يلفظ اسمها.
تعتبر «قلب الظلمات"الى جانب روايته الأخرى «لورد جيم"اشهر وأجمل ما كتب جوزف كونراد (1857-1924) الكاتب الإنكليزي ذو الأصل البولندي، اذ انه عبر فيها عن قوة رسمه، من ناحية، للطبيعة ولعلاقة الإنسان بها، ومن ناحية ثانية، للإنسان في عواطفه ومشاعره الخفية. ففي «قلب الظلمات"عرف كونراد كيف يرسم الطبيعة كشبكة من المشاعر التي تحيط بنا وتسيّر حركاتنا، وهي متمتعة بحياة خاصة بها، من الصعب ان نجد في داخلنا قوة حقيقية للسيطرة عليها. وما كورتس هنا سوى دليل على سيطرة الطبيعة على الإنسان. وكونراد كان يعرف هذه العلاقة بين الإنسان والطبيعة، هو الذي عايش الأدغال والبحار منذ سن مبكرة. فهو اذ تيتم بعد ولادته في أوكرانيا، وكان في العاشرة من عمره، وجد نفسه بسرعة على متن سفن تجارية بحاراً بين بحارتها. ومن ثم أتيح له ان يصبح بحاراً على سفن تجارية انكليزية، ما مكّنه في العام 1886 من الحصول على الجنسية البريطانية. وهو ظل يخوض غمار البحار حتى العام 1894، حيث تقاعد منصرفاً الى الكتابة، فأنجز حتى رحيله العام 1924، ثلاثين كتاباً وصف في معظمها مغامراته في البلدان والبحار والقارات او استوحاها بأسلوب غرائبي كان هو ما ساهم في تحقيق رواياته نجاحاً ما بعده نجاح. ومن أبرز اعماله، الى ما ذكرنا، «الإعصار"و»في آخر اللفافة» وغيرها من اعمال كان هدف كونراد الدائم فيها البحث عن حقيقة الإنسان وعلاقته بالكون، ولكن في قالب روائي مشوّق دائماً.

عن صحيفة الحياة