صهر الكاظمي يتحدث: هكذا توفي الكاظمي.. وهكذا دفناه في مصر.. وهكذا جمعنا شعره

Sunday 6th of March 2016 07:23:28 PM ,

ذاكرة عراقية ,

حكمة الجادرجي
دبلوماسي عراقي وزوج السيدة رباب الكاظمي

في حوالي الساعة الخامسة من بعد ظهر اليوم الأول من شهر ايار عام 1935 اتصل بي"الطالب" عز الدين آل ياسين، رحمة الله عليه، واعلمني بان الاستاذ الشيخ عبد المحسن الكاظمي قد توفي بداره بمصر الجديدة، فألمني هذا الخبر كل الألم وكنت اعلم بان الكاظمي يعاني آلام مرض الالتهاب الرئوي منذ اكثر من شهر،

وكان الطالب المذكور ملازما له طيلة تلك المدة فكان مثالا للشهامة والوفاء فقمت بعد ذلك بالاتصال بمن كنت اعرفه من اصدقاء الكاظمي الذين كانوا يترددون عليه ابان حياته كالشيخ مصطفى عبدالرازق استاذ الفلسفة الاسلامية بجامعة القاهرة وشيخ الجامع الازهر بعدئذ، والاساتذة اسعد داغر وزكي مبارك واحمد امين، وخليل مطران وانطوان الجميل وخير الدين الزركلي وامين سعيد وغيرهم وعلمت ان الشيخ مصطفى عبد الرازق كان ملازما الفراش ولكنه اصر على ان امر عليه في صباح اليوم التالي لاصطحابه الى منزل الكاظمي للاشتراك بتشييع جثمانه الطاهر الى مثواه الاخر، واعلمني الآخرون بانهم سيكونون في موكب التشييع الذي حددت له الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي الثاني من أيار.

وفي الموعد المحدد صحبت الشيخ عبد الرازق الى دار الفقيد وكانت تقع بميدان الاسماعيلية بمصر الجديدة، فوجدنا الاستاذ عبد القادر الكيلاني القائم باعمال المفوضية العراقية آنذاك قد سبقنا الى هناك وبعض الطلاب العراقيين الذين كانوا يدرسون بمدارس القاهرة... وكان الشيخ مصطفى بحالة تأثر شديد وقد اغرورقت عيناه بالدموع على صديقه الحميم الذي كان تجمعه به صلة الصداقة والادب الرفيع والاخلاق الفاضلة، وقد أبى الا ان يشترك في تشييع بسيط لم يسر فيه الا القليل ممن كانوا يتصلون بالكاظمي سواء من الادباء او من العراقيين الذين كانوا آنذاك بمصر.. ولكن ما ان علم القوم بنعي الفقيد من صفحات الصحف في اليوم التالي حتى بدأ المعزون يفدون على داره فيقدمون التعازي الى كريمته والى من كانوا يجدونه في الدار من الاهل والصحاب، ويعربون عن الخسارة التي اصابت الشعر بوفاة شاعر العرب الكاظمي، وكانت الاحاديث تدور حول الذكريات التي يحملونها عن ذلك الشيخ الجليل، فقد ذكر الشيخ مصطفى عبدالرازق رحمة الله عليه، بان عامة القوم في مصر لم يكونوا يفرقون بين الاقطار العربية بل كانوا يطلقون على كل من هو غير مصري كلمة"شامي"وكل بلد من البلاد العربية هو من"بر الشام"حتى جاء الكاظمي وبدأ يترنم بذكر العرب وبغداد والكرخ والزوراء فعرفوا به تلك البلاد وصاروا اذا رأوا عربيا من العراق قالوا هذا من بلد الكاظمي، وهكذا كان الكاظمي اول من عرف المصريين بوجه العراق العربي الأصيل.. وذكر الاستاذ مكرم عبيد عضو حزب الوفد المصري، بان الزعيم سعد زغلول كان كثير الاعجاب بشعر الكاظمي وكان يرى فيه شاعرا من شعراء المعلقات، وذكر الاستاذ مكرم بان سعد كان اول من وصف قصائد الكاظمي"بالمعلقات"ولكن الشاعر خليل مطران شاعر القطرين لم يوافقه على ذلك، ونسب الى الاستاذ خير الدين الزركلي، الذي قام بطبع بعض قصائد الكاظمي واطلق صفة المعلقات على تلك القصائد.. وذكر الاستاذ اسعد داغر بان المصريين لم يكونوا يطلقون اسم"عبد المحسن"على ابنائهم قبل مجيء الكاظمي الى مصر، فلما عرفوه واعجبوا به بدأوا يكثرون من التسمية باسم عبد المحسن.
وكم عاتبنا وعاتب المفوضية العراقية آنذاك الكثيرون من المعزين لعدم قيامنا بالواجب تجاه الكاظمي ابان مرضه وبعد وفاته وتساءلوا اين مجلس العزاء والفاتحة لاستقبال المعزين ولما ذا لم تقم بذلك فلم نجد جواباً!! ثم مرت الايام.. وكان لنعي الفقيد الاثر الداوي في العراق فقامت الحكومة مجاراة للرأي العام وقررت اقامة حفلة تأبينية كبرى دعت اليها كريمته من مصر وكانت تلك الحفلة كسوق يتبارى فيها الادباء والشعراء بالاشادة بمنزلة الكاظمي العالية في عالم الشعر القومي العربي والخسارة التي اصابت الامة العربية عامة والعراق خاصة بفقده.. وقرأنا بالصحف بان لجانا تألفت لجمع ديوان الكاظمي واخرى لجمع التبرعات من الاهلين لتشييد ضريح لائق بمكانته.. وان مجلس الوزراء في العراق قرر تأليف اللجان واوصى بمؤازرتها.. ثم مضت الايام والسنوات ولا اثر لتلك اللجان او لما قيل عن التبرعات التي تقدم بها الاهلون، ولما سألنا المسؤولين عن ذلك قيل لي بان لا علم للجهات المسؤولة بذلك.. وكفى الله المسلمين شر القتال! لذلك اخذنا الامر على عاتقنا بما لدينا من قلة في المال، واظهرنا المجموعة الأولى من ديوان الكاظمي عام 1939 ثم اعقبناها بالمجموعة الثانية عام 1947، وبعد ذلك قمنا بتشييد ضريح بسيط ولكنه لائق نقلنا اليه رفاته الطاهرة في مقبرة الامام الشافعي على سفح جبل المقطم الذي يطل على القاهرة وكان سبب اختيارنا لذلك الموقع هو كون تلك المقبرة تضم اضرحة الكثيرين من ادباء مصر، وموقعها بعيد عن امتداد احياء السكن، واحتمالات الغاء الدفن فيها او تحويلها الى منطقة سكنية او صناعية كما حدث لمدافن اخرى بالقاهرة، وبقينا طيلة هذه المدة ترعى الضريح حتى لم يبق لنا متسع لذلك.. ولما قمنا بزيارة القاهرة في تشرين الاول الماضي هالنا ما وجدناه فيه من تخريب ينذر بالاندثار، وتركناه ليد القدر ونحن نعلم بانه منذ تشييدنا لذلك الضريح حتى اليوم لم يخطر ببال ممثلينا الدبلوماسيين بالقاهرة ولا طلابنا ولا احد من اعضاء مختلف الوفود الذين يترددون عليها ان يسأل عنه او يعلم اين هو موقعه لقولها معاتبا جميع هؤلاء على هذه الصورة من الوفاء للادب وللدين الشيخ الذي اذاب فؤاده وقضى حياته مترنما يذكر امجاد العرب والدعوة لوحدتهم الشاملة.
وبهذه المناسبة، مناسبة ذكرى وفاته، رأيت ان اذكر شيئا عن هذه الناحية من حياة الكاظمي ذلك الشاعر الذي اطلقت عليه الاوساط العربية لقب"شاعر العرب"فارتضته له بقية الشعوب العربية بحق وجدارة وطواعية من بين جميع شعراء العرب الذين عاصروه اوجاؤوا بعده، ولم يكن للكاظمي من قوة المال او السلطان ما ساعده على نيل ذلك"اللقب الرفيع"غير ما حفلت به قصائده الكثيرة من اثارة روح العروبة واستنهاض الهمم لاعادة مجد العرب واقامة كيان وحدتهم بروح تنم عن عروبة خالصة في التفكير والنزعات والاتجاهات.
وهو الذي اهاجه احد الزائرين عندما وصفه"شاعر العراق"فاذا به"اي بالكاظمي"يقول له:"بل قل شاعر عربي عراقي فالعراق اقليمي والاقطار العربية كلها وطني"كان ذلك في وقت كان القوم فيه تتجاذبهم نزعات واتجاهات ودعوات مختلفة ولم تتوضح لهم الطريق بعد، فمنهم من كان يدعو"للفرعونية"ومنهم الى"الاسلامية" وآخرون دعوا الى "المصرية" على اعتقاد بانها جمعت للعناصر المختلفة التي تعاقبت على بلاد الكنانة في مختلف العصور فانصهرت بمرور الزمن وكونت عنصرية جديدة رؤا فيها مميزات خاصة اطلقوا عليها"المصرية"ففي خضم هذه النزعات الحائرة جاء الكاظمي وصاح بالقوم هناك:
احن اذا قيل العراق وانحني
واشهق ان قيل الشام وازفر
واطرق ان قيل الحجاز على جوى
واعجب اما قيل مصر وابهر
منى النفس ان يلقى العراق وغيره
من الخير ما يهوى وما يتخير
جميع بلاد العرب في القدر واحد
اذا وزنوا البلدان يوما وقدروا
وقال:
انما الشام والعراق ومصر
اخوات وان تفرقن حينا
حبذا يوم يصبح العرب طرا
في جميع البلاد متحدينا

وقد تعدى ذلك الى القول:
يا نيل انت لنا اب
واب الاعزة لا يذل
لك في العراق وفي الشام
ونجد والحرمين اهل
ولك الابر من الجز
يرة ما يبر اخ وخل
وكأني بالكاظمي لم يكتف بتذكير القوم في ذلك الزمان بأن مصر والشام والعراق وبقية البلاد العربية بلاد واحدة ذات امة واحدة بل اراد ان يقول لهم بان ارض الكنانة مصر، وقد خاطبها بالنيل، هي بمنزلة الأب منها، وابو الاعزة لا يذل، فهل اوضح من ذلك التفكير"بالوحدة الثلاثية"قبل الدعوة اليها بعشرات السنين؟
والذي يتصفح ديوان الكاظمي يبهره ما يجده فيه من كثرة التذكير بامجاد العرب والدعوة لوحدتهم والاشادة بالقومية العربية. وقد دعى في بعض قصائده بصراحة الى ان تكون وحدة العرب تحت لواء واحد، وقائد واحد، اسمعه يقول في قصيدة:

ايها العرب تعالوا نلتق
في طريق المجد حتى نصلا
نلتقي تحت لواء واحد
سجل النصر له اذ سجلا
وفي قصيدة اخرى لم تنشر بعد في الديوان يقول:
يا ايها العرب تعالوا
نحتكم الى الرشد
لم لانوحد القوى
جميعها ونتحد
تحت لواء واحد يخفق في كل بلد
في ظل ادرى قائد
له من الله المدد

وهكذا كانت الصورة في مخيلة الكاظمي بلاد واحدة ذات امة واحدة يخفق عليها علم واحد في ظل قائد واحد، فهل تجد بين شعراء العرب من دعا الى مثل هذا قبل اربعين او خمسين عاما وفي بلاد الكنانة بالذات؟
وكان الكاظمي يتلفت بانظاره هنا وهناك باحثا عن ذلك القائد من الحكام العرب آنذاك فيفرض فيه الاخلاص ويقول فيه الشعر تشجيعا وتحفيزا له للعمل القومي ثم يتوجه اليه بنفس القصيدة بالنصح والتوجيه والتحذير حتى اذا رأى ان ذلك لم ينفع فيه اذ رأى في ذلك الحكم انحرافا عن الطريق القويم يسلط عليه القوم ويكيل له التشهير اللاذع مما يسبب للكاظمي الكثير م المصاعب في حياته من نفي وقلة ذات يد وتشريد، ولنسمعه في احد قصائده الى الملك حسين بن علي يقول فيها:
لقد سبق الحسين الى المعالي
وكان لنابه شرف اللحاق
قد اتفق الحسين مع الاعادي
فلا كان الحسين على اتفاق
وهل يبقى على عهد حليف
اذا ما العهد شيد على نفاق
فويل للذين جنوا علينا
وقادونا الى الظلم المساق
فعدنا واثقين بهم فقامت
مطامهم على قدم وساق
وخفوا واعدين بنا منا مناهم
على ايدي التردد والشقاق
كانا ما اجتمعنا للتلاقي
غداة البين الا لافتراق
ثم اسمعه في احدى قصائده، غير المشورة في الديوان، وقد ارسلها وقد ارسلها الى احد ملوك العرب الذي ارتضى عرشا على اسس تقسيم البلاد العربية بموجب معاهدة."سايكس بيكو"المشهورة:
ياسبة الجاني واية سبة
تلك التي تدعى بسايكس بيكو
ليس الحياة بان ترى في يعرب
ملكا وانت لخصمها مملوك

وفي قصيدة ارسلها شخصيا الى الملك فيصل الاول يحذره فيها من التحالف مع الانكليز قبل الحصول على"حق البلاد الاكمل"في الحرية والاستقلال اذ يقول:
احق المماللك ملك سما
به ملك عنه لا نشغل
واجد بالملك ذو فطنة
اذا غفل الدهر لا نغفل
ويأبى التحالف حتى يعود
الى ملكه حقه الاكمل

اما حنين الكاظمي الى مسقط رأسه ومرتع شبابه ومساكن اصحابه واحبائه في العراق. فقد كان ينم عن صدق العاطفة ويهز المشاعر، ولا شك بان كثرة ما ذكره الكاظمي في قصائده عن العراق بذلك الاسلوب العاطفي الجميل هو الذي لفت انظار القوم في مصر، الى هذه البقعة الطيبة من الارض العربية. وعرفهم بها احسن تعريف فكان ذلك اكبر واقوى دعابة لنا نحن العرب من سكان ارض الرافدين، فقد وصف العراق وطبيعة ارضه وشجاعة ابنائه بقوله:

فيه السبيل حدائق وخمائل
وبه البيوت عرائن وخدور
فيه الاريب الفد واللسن الذي
وفي ومنه العالم التحرير
حاجاته في ارضه وسمائه
فلدى التعسر رزقه ميسور
لكنه وهو الغني بتربه
من عار في ذلك التراب فقير
اما مبانيه فقير شواهق
لكن سكان البناء صقور
فهم البزاة محلقات في العلى
واذا هوت فضراغم وغور

ولم اعلم بان اهله واصحابه او رفاق صباه الذين تغني بذكرهم في العراق كانوا يستمعون او يمدون اليه بايديهم او حتى بابصارهم، وانما استمع اليه ومد له يد الاخوة واظهر له واجب الوفاء رجال من ارض الكنانة ممن عرفوا فضله وقدروا منزلته من امثال الامام محمد عبده وسعد زغلول وغيرهما من رجال الفكر وقادة الامة.
اما بعد.. فهذا قليل من كثير عن بعض نواحي حياة شاعر العرب عبد المحسن الكاظمي، الذي اذكره دوما بالا جلال والتقدير وادعو له في هذه الذكرى الثلاثين لوفاته بالرحمة والثواب، وقد تحدثت بما تحدثت به وما انا"بالاديب الاريب"وانما تذكيرا لادبائنا هنا، لعل هذه الذكرى تهزم فيقوموا بما عليهم من حق الادب القومي تجاه شيخهم الكاظمي، ولست اريد ان اصدق ما ذكره احد ادباء تونس الخضراء عندما ادعى"بأن ادباء العراق الآن هم اكمل ادباء العربية".
اما المسؤولون من رجال حكومتنا الوطنية، فالامل بان يقوموا بما يخلد ذكر الكاظمي، ويذكر جيلنا الناشئ بذلك الشيخ الذي قضى وقد بح صوته وفنى جسمه وروحه في سبيل استعادة مجد العرب ولم شملهم وتوحيد اهدافهم، وقد نزت كبده وتحرقت بنار الجوى ضلوعه لوعة على الدار والاهل والصحاب:
ابغداد لافاتتك مني تحية
يفسر فيها ما اراد المفسر
حنينا الى تلك البقاع الى التي
تطيب الى تلك التي هي اطهر
حنينا الى العود الذي هو انظر
حنينا الى الزور احنينا الى الصبا
وياليتني في ذلك الترب اقبر
لقد زعموا اني نسيت وانني
غدوت بهذي دون تلك افكر
وكيف تراني ناسيا ذكر موطن
له مورد في كل سمع ومصدر
اذا كان لي في ذلك الترب موطن
فلي وطن في هذه ليس ينكر
هناك شبابي قد تقضى وههنا
مشيبي وفي الحالين اشكو واشكر
رحم الله الكاظمي، وكان في عوننا من وراء القصد. انه سميع مجيب.

عن كتاب (ذكرى الكاظمي)