فكتوريا .. إشكالية الانتماء والبحث عن الهوية في أروقة الذاكرة

Saturday 15th of August 2015 06:43:58 PM ,

ملحق اوراق ,

خضر عواد الخزاعي
صدرت رواية "فكتوريا" للكاتب اليهودي العراقي سامي ميخائيل في العام 1993 باللغة العبرية، وترجمت الى العديد من اللغات العالمية أهمها اللغة الإنكليزية والفرنسية والعربية والألمانية والسويدية والرومانية، وصدرت بعد ذلك عن دار الجمل في كولونيا في المانيا في ترجمتها العربية للكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش في العام 2005.

وتعتبر رواية "فكتوريا" من وجهة نظر الكثير من النقاد من أهم الروايات الشرقية المكتوبة بالعبرية لأنها تؤرخ لمرحلة مهمة وخطيرة من تأريخ الطائفة اليهودية في العراق عبر أكثر من 2500 عام من خلال أسرة يهودية يمتد وجودها في عمق هذا التأريخ حتى هجرتها في منتصف القرن الماضي إلى اسرائيل.
ثنائية المكان والزمان في رواية فكتوريا:
في رواية "فكتوريا" يضعنا الكاتب أمام ثنائية جدلية مترابطة بإحكام يقف فيها السرد الروائي متوازناً مع الدلالات المكانية والنسق الزماني، فكما أن هناك سردا استذكاريا بطريقة Flash Back وسردا استشرافيا Prediction Text يحاول أن يسبق الزمن الحكائي. كذلك هناك زمن الروائي نفسه Narrative Time ، ثم زمن القارئ Reader Timeالذي سيمسك بكل هذه المتغيرات بوحدة واحدة ضمن بيئة اجتماعية وجغرافية محددة سلفاً، بمستويات متعددة تخضع لعوامل الزمن وما يفرضه من انتقالات وتطورات هي وليدة أحداث متتالية كان الجديد فيها يُنحي القديم ويمضي إلى أمام، ولقد استفاد الروائي سامي ميخائيل من التقنيات الحديثة في الكتابة التي غادرت أسلوبية السرد للأحداث بطريقة متسلسلة لتصل إلى نهايتها المرسومة لها بعناية مستفيداً من أعمال جيل الحداثة في النصف الأول من القرن الماضي فالزمن كما يقول آلان روب غرييه: "أصبح، منذ أعمال بروست وكافكا، هو الشخصية الرئيسة في الرواية المعاصرة بفضل استعمال العودة إلى الماضي، وقطع التسلسل الزمني، وباقي التقنيات الزمنية التي كانت لها مكانة مرموقة في تكوين السرد".‏ بل أنه استطاع أن يتعامل مع هذين المفهومين الظرفيين الدلاليين "الزمان والمكان" بحرفنة متمكنة، وخلال خمسة عشر فصلاً وأكثر من مئتي صفحة يأخذنا الكاتب معه في رحلة تنوع ثيمي نجح فيها أن يحوّل الزمن إلى أداة طيعة لتشكيل بنية السرد، في تنوع تقني كانت الانتقالات فيه من زمن لاحق إلى زمن سابق مروراً بالزمن الحاضر دون المساس بمركزية الزمن السردي الذي أحاط بتركيبة البناء العام لشكل الرواية.
كما يحدث في الفصل الثالث عشر وفي الصفحة 161-162 حيث يأخذنا الكاتب معه في انتقالات متماوجة سلسلة، فيما تكون فكتوريا في طريق عودتها الى "الحوش" من النهر بعد فشلها في الانتحار، حيث يعرض لنا الكاتب حضور سكان الحوش لمشاهدة أول حفلة سينمائية تقام بعد دخول القوات البريطانية الى بغداد 1917 . والتي تعرضت بعد لحظات الى الحرق من قبل بعض المسلمين المحافظين لأنها تُظهر مشاهد منافية للأخلاق العامة، "وفجأة ألفت ذاتها وحيدة بين المقاعد المحترقة وهي على وشك أن تصرخ"، ثم ينتقل بالزمان والمكان إلى مستوى استرجاعي أبعد "أن صرخة مشابهة تجمدت في حنجرتها حين ابتسم رفائيل للمدعوين الذين حضروا حفلة قرانها البائسة" لينتقل بنا إلى مناسبة "عقد قران مريم على جرجي الحداد" ثم تتذكر فكتوريا سفر رفائيل إلى البصرة وعودته منها مع أسرته بعد انتهاء الحرب بشهور طويلة، إن هذه التحولات الزمانية –المكانية لن تشعر القارئ بالإنقطاع عن المتن الحكائي للرواية لانها لم تكن قفزات شاذة داخل النص بقدر ماكانت استمرار لما كان يخالج روح فكتوريا من اضطراب وهي في طريقها الى البيت.
وإذا كان "المكان هو البطل" كما يقول "غاستون باشلار" فإنه في رواية "فكتوريا" يفرض نفسه بحظورٍ سيسولوجي متميز بتحفيزه لقيم وموراثات مجتمعية ارتبطت ببغداد مكان الرواية، وكان لها الأثر في مجريات أحداثها وصياغة سلوكيات شخصياتها، من خلال وحداته الثابته جغرافياً والمتحولة معمارياً بسبب تعاقب السنين وتغير أنماط البناء وأسلوب الحياة. وفي رواية فكتوريا ينقسم المكان إلى أكثر من وحدة عيانية، ارتبطت بصورة وبأخرى بحياة ومصائر شخوص الرواية، فهناك الأماكن الرئيسية: وهي الأماكن اللصيقة بمصير أبطال الرواية مثل"الحوش": وهو البيت الكبير والذي كان يطلق عليه في اللهجة العراقية الدارجة"النزل" بكسر النون والحوش في هذه الترجمة لا يمثل المصطلح المتعارف عليه وهو"الباحة" بل تُرجمَ على أنه "البيت الكبير" ولم يجعل له الكاتب خصوصية تذكر في أن يجعل له حيزاً منفردا في التوصيف والشرح، بل كان يشير إليه من خلال لحظة الفعل المؤثرة التي كان يتطلبها الحدث، والذي كان له أكثر من وظيفة سيمولوجية دلالية فهو المساحة التي كانت تقام فيها المناسبات العائلية مثل خطوبة مريم وخطوبة فكتوريا، والأعياد اليهودية. وحفلات ختان الأطفال وكذلك المآتم التي تقام على أرواح الموتى، كما في موت "ميخال" حيث تحوّل إلى مكان للعزاء واللطم على روح الجدة. ص135، وهو مكان للإستئناس بسماع حكايات سكان الحوش، كما تفعل نجية أم فكتوريا حين تتوسط الحوش لتقص للجميع الحلم الذي راودها في الليلة السابقة."بعد هذه الأحداث بثلاثة أشهر استمع سكان الحوش إلى حلم نجية. ف8 ص83 " ويتحوّل الحوش في مناسبة أخرى إلى مخبأ للرجال الذين يخافون أن يساقوا إلى الحرب "كان الرجال الذين يحفرون تراب الحوش القديم يلهثون ولم يكن هؤلاء من المتمرسين في حرفة الحفر. ف9ص93 " ومرة يرتبط المكان بزمان وظيفي محدد كما في "يوم الأربعاء وضعت فكتوريا ثياب الغسيل المتسخة بجوار طست لنقع الثياب وظهرت حولها في الحوش طسوت نساء أخريات. ف21ص329".
"السطح" الذي يشغل هو الآخر أكثر من وظيفة دلالية في الرواية فهو المكان الأثير للعب الفتيات الثلاث فكتوريا ومريم وتويا "غمزت مريم فكتوريا وأشارت إلى عجيزة تويا الطفولية وقد أخذت تقترب منهما برصانة وهي تخطو إلى الخلف واثناء ذلك مضت ترسم بطرف العصا المحروق مربعات سوداء للعبة التوكي. ف6ص43 " فيما كانت تستخدمه نجية أم فكتوريا للتجسس على بيت جارهم عبدالله "في تلك الفترة شرعت نجية تصعد السطح وتراقب الحوش المجاور. ف2ص19" وأيضا يستخدم كمكان للنوم في فصل الصيف الحار"قبل الغروب صعدت فكتوريا إلى السطح لتنشر أفرشة العائلة كي تخفف عنها حرارة الشمس. ف2ص16" وكذلك هو المكان الذي تم فيه اغتصاب كليمنتين ابنة فكتوريا من قبل خالها نسيان لما يمتلكه هذا المكان من خصوصية العزلة والإنفراد" خالي نيسان هنا على السطح يوم السبت عندما انهمر مطر غزير تحت ذلك السرير، كان الطقس باردا جدا وكانت عيناه كعيني عفريت، وخفت حتى أن اصيح، لاتقتليني يا أمي أقسم لك، امسكني من شعري وقال انه سيدخل فارا ميتاً إلى بطني لو قلت شيئاً. ف21ص333 ". بالإضافة إلى الحوش والسطح هناك "المطبخ" بقِدَمهِ وماكان يمثله من رمز من رموز الثراء والجوع بالنسبة لسكان الحوش وخصوصاً أبناء الياهو و"السرداب" الذي كانت يستخدم كمان للسكن من قبل اسرة الياهو وفكتوريا.
الأماكن الثانوية: وهي الأماكن التي كانت جزءاً من ذاكرة الطائفة التي مثلتها أسرة "ميخال" في الرواية وكانت مؤثرة في حياة الأسرة لأنها تعتبر البيئة التي عاش في كنفها الجميع وتَطبَّع في طباعها، وشكلت أسلوب حياتهم على مدى قرون وعقود من السنين وهي : بغداد - البصرة- الديوانية - دجلة - البتاوين - الشورجة - الكاظمية - ابو سيفين - سوق البزازين - سوق حنون - مقهى الشط - التياترو- جسر مود"السنك" - شارع الرشيد.
تأثير البيئة العراقية –البغدادية على اليهود :
وكانت هذه الأماكن بقسميها الرئيسي والثانوي هي البناء السينوغرافي، الذي كانت تدور فيه أحداث الرواية ومنه تشكلت كل القيم الأخلاقية والعُرفية التي انعكست على مجمل سلوكيات المجتمع اليهودي العراقي عامة والبغدادي خاصة ومن ضمنهم عائلة الأم ميخال، ومنها الاهتمام بارتداء الثياب الطويلة المحتشمة والعبائة الحريرية أو الصوف، وتغطية الوجه بالنقاب أو ماكان يعرف حينها "البوشية" "قبل خروجها من البيت ارتدت عباءتها وغطت وجهها بنقاب أسود. ف1ص5" والحديث هنا عن فكتوريا وماكانت ترتديه النساء اليهوديات من ثياب اثناء خروجهن من البيت، وهو جزء من التراث العراقي المحافظ،"العباءة الحريرية السميكة وكيف تخفي جسدها وكأنها سجن لامنفذ له ولا يبدر عنه صوت. ف3ص29 " وهي إضافة وتأكيد على الإلتزام بالحشمة، إلى درجة انها تخفي حتى صوتها،" لقد عودوها منذ صغرها أن تستر اعضاءها وتغطي رجليها حتى كاحليها، وعزوري أب متزمت بالنسبة للاحتشام. ف13 ص166" وهناك اشارة أخرى من الأب يهودا إلى زوجته عزيزة حول ثياب ابنتهم مريم" انظري إلى فستانها وكيف أن رجليها عاريتان حتى الركبتين تقريباً. ف3 ص29" ويبدو أن هذا الحرص والاهتمام على التمسك بروح المحافظة والتزمت بالنسبة للثياب وغطاء الوجه كان له علاقة بالمؤثر الاجتماعي والتقاليد والعرف، أكثر منه علاقةً بالدين والتدين، اذا ما أخذنا بعين الاعتبار حالة الجهل والانقطاع التي كان يعاني منها معظم سكان العراق واليهود انذاك، كذلك نلاحظ تأثير البيئة العراقية يمتد إلى ما كان يرتديه الرجال، كما يبدو رفائيل زوج فكتوريا " فبدل عباءة صوف الجمال والجبة المقلمة شدت السترة القصيرة والبنطلون الضيق على أعضائه الرقيقة. ف1 ص8" وهي اشارة إلى ماكان يرتديه الرجال في ذلك العهد في بدايات القرن الماضي وحتى الان، ولا يقتصر تأثير البيئة العراقية على جزيئية اللبس فقط، بل يتعداه إلى أعراف وتقاليد أخرى، هي من اساسيات سلوكيات المسلم العراقي مثل: "وكان العم يهودا يلتقط كسرات الخبز العفنة من أرض الأزقة ويقبلها ويدسها بين صدوع الجدران كي لاتدوسها الأقدام. ف1ص8"، وهيّ من حالة من شكر النعمة ومحاولة الحفاظ عليها، يمارسها العراقيون بمختلف أديانهم وثقافاتهم، أينما وجدوا كسرة خبز ملقاة على الطريق، وفي التقاطة أخرى لتأثير البيئة العراقية المحافظة والمتزمتة في موضوع الشرف الذي تمثله بكارة البنت قبل زواجها، نقرأ كلمات فكتوريا عن حادثة اغتصاب ابنتها كليمنتين"ففي سن مبكرة جداً فقدت فرصتها في مجتمع يقدس البكارة ويعتبرها أهم من النسب والجمال والثراء ف21ص336 " ومن المؤكد لو أن حادثة الاغتصاب التي تعرضت لها ابنتها كليمنتين في اسرائيل لما أخذت من فكتوريا كل هذا الخوف والاهتمام على مصير ابنتها.
إشكالية الانتماء والبحث عن الهوية:
منذ سطورها الأولى التي يستهل بها الروائي سامي ميخائيل روايته فكتوريا. يضعنا أمام حقيقة مهمة، وهي التأكيد على الهوية العراقية- البغدادية لبطلة روايته فكتوريا، وانتمائها الى هذه البيئة الاجتماعية، بكل ماتفرضه تلك البيئة من تقاليد وأعراف اجتماعية، كانت متبعة انذاك. من حشمة ومحافظة وحياء والتزام اخلاقي ومجتمعي "لم تجرؤ منذ نشاتها على الابتعاد عن بيتها كل هذه المسافة دون مرافقة رجل. ف1ص5" وهذه اشارة الى "فكتوريا" بطلة الرواية وهي في طريقها الى الجسر، ثم يضيف "قبل خروجها من البيت ارتدت عباءتها وغطت وجهها بنقاب اسود وعليه نقاب آخر. ف1ص6" والكاتب في هذه الجزئية يبرز التأثير الواضح للبيئة البغدادية على الطائفة اليهودية، وفي بحثه الدؤوب لتأكيد هذه الهوية لم يستطع الكاتب سامي ميخائيل الإفلات من سطوة تأثير البيئة العراقية التي احتضنت الطائفة لأكثر من 2500 عام، فلقد كانت البيئة البغدادية بكل مكوناتها وتفاصليها سواء الإجتماعية والإقتصادية والدينية والإرث المتراكم لتراث عميق من التقاليد والأعراف، كان حاضراً في حياة اليهود العراقيين بالإضافة إلى التواصل الأجتماعي اليومي الذي كانت تفرضه متطلبات الحياة العامة، فها هو يكتب عن قيم التعايش السلمي المجتمعي بين اليهود والمسلمين العراقيين "بغداد راسخة في مكانها لأكثر من ألف عام، وتلك المدينة الكبيرة التي تطورت عن قرية نائية في أطراف الإمبراطورية الساسانية تدين بالكثير لآباء فكتوريا. لقد ساهم العلماء والأطباء والمفكرون والسياسيون والأدباء اليهود مساهمة كبيرة في بلورة الحضارة العربية التي نشأت هناك. ف 7ص73" ".
في روايته الملحمية الكبيرة "فكتوريا"، قدم لنا سامي ميخائيل منجزا أقل ما يمكن ان يُقال عنه، إنه منجز محلي عراقي بصبغة يهودية، لكن ذلك لم يمنع من أن تكون فكتوريا الأنثى والرواية، نتاج بيئة عراقية - بغدادية خالصة، كتبت بأجمل مايمكن أن يسطره الحنين إلى زمن غابر لا أحد يستطيع أن يقرأ مستقبله الان.