الجسد بلا معلم... الهروب إلى آفاق أخرى للشعر

Friday 30th of July 2010 05:30:19 PM ,

منارات ,

جبار النجدي
تحتاج قراءة مجموعة الشاعر عباس بيضون (الجسد بلا معلم) إلى معرفة اخرى بالشعر، تسعفنا على الإحاطة بفاعلية التحليق الذهني لدى (بيضون) بوصفه لغة الشعر الناطقة، التي بوسعها ان تدفعنا للتحري عن أصل آخر للشعر يتمثل في القدرة على إيجاد تركيبة شعرية تحمل نفياً مستمراً لوجودها.

للحد الذي يجعل من الشعر سلطة تحمي وجودها بالتحري عن شيء يهدد ابنيتها، وعلى وفق ما يتمتع به الشاعر عباس بيضون من قدرة على إقامة عنصر مضاد للشعر داخل الشعر نفسه، فانه يتقن بذلك إرتياد ما تتركه علائق الزمن من بصمات تتحدى قدر الشاعر نفسه وإرادته، ومن هذا المنطلق يجنح شعر الشاعر (بيضون) إلى التصريح الخافت المتغذي على الافتراض، في سعي لاعطائنا بعداً آخر إلى الشيء المنظور عبر تحريك اللقطة الشعرية وليس عرضها، أن هذا الاشتغال الشعري من شأنه ان يحظى باشتراطات أخرى للشعر، من بينها ان المعنى لا يستطيع شيئاً أمام طوفان المعاني وحراكها، الذي يجري في إطار الارتقاء بالشعر من ثقل معاني الكلمات إلى خفة معاني المرئيات لتجسيد دلالة الشعر بلمح المرئي وخفته، فاينما يدور الجسد يكون بمواجهة هذه الخفة في المرئي لدرجة ان مهمة الشعر تتعلق بحدوث معنى آخر، بعبارة أخرى ان الشاعر يكف عن أن يكون هو نفسه، فالمعنى على الدوام أقل مما يعلنه الشعر، وهذا بحد ذاته إيذاناً بوقوف الشعر بعيداً عن الموروث وبالتالي فأن الشاعر عباس بيضون يعتمد خفة المرئي الذي يلامس سرية المخفي الموزون بأكثر الأشياء خفة، الأمر الذي يجعل المعنى والدلالة في تركيبته الشعرية، تمران وكأنهما طيف بخفتهما فلا ندركهما إلا بعد مضيهما، ولعل في ذلك الكثير من سمات الدهشة الشعرية الناجمة عن معنى يبتعد عن مستقراته ليواصل اللحاق بمتحركاته، لذا فانه يغادر حال مجيئه الأمر الذي يقودنا إلى تحري وجوده مرة بعد أخرى، والسبب يعود إلى ذلك الافتنان بالخفة والهروب إلى آفاق أخرى للشعر، ونجد ذلك مبكراً في عبارة الأهداء التي استهل بها الشاعر بيضون كتابه الشعري والتي تقول:
لن أبقى طويلاً هنا
لكن جميل أن تأتي
إن قيمة التركيبة الشعرية هنا بما تنطوي عليه من معنى تُظهر أهميتها بعدم وجوب الالتفات إليها، كونها محمولة على متن الخفة المتمثل في الذهاب سريعاً وعدم الانتظار بل ان غاية ما ينتظره المعنى هو استحالة الاستجابة له، انه لا يحفل بالمكوث والرسوخ طويلاً وان حضر فأنه يحضر ليغيب، محولاً الزمن إلى حليف لخفته وغيابه، فالجملة الشعرية لا تكف من إبعاد ما تنتجه بمعنى انها لا تكف عن نفي نفسها باعتبارها قرينة اللحظة الهاربة التي يصعب تبينها بعجالة، لكن بوسعها إخفاء شيء من حضورها الغرائبي الذي ليس بمقدور المتلقي التآلف معه في الحال، ولذلك فأن الشاعر بيضون لا يستطيع شد انتباهنا إلا باللجوء لهذا الحضور الغرائبي الذي تتركه الجملة الشعرية خلفها ويتضح ذلك في هذا المقطع الشعري الذي يشكل جزء من نص (عاريات صالة الشتاء):
أوراق كبيرة يظنونها ميتة
لم تسقط من السماء
الأشجار العالية لا تلد نجوماً
بهذا الحجم
إن نصوص بيضون بمثابة توقيع بالأحرف الأولى على أنماط شعرية لا تترك معنى خلفها، وجل ما تتركه هو نوع من الحلم، تعقبه حركة اخرى هي بمثابة نافذة مفتوحة على حراك مفاصل الزمن ومحاولة الوصول إلى الحد البالغ الخطورة فيه، ذلك الحد الزمني الذي يحمل تهديداً بالانتقال إلى غيره:
هكذا يفعلون بورقة جميلة
يظنونها ميتة
لقد جعلوا اجساداً خالية من الرغبة
غير قادرة على أن تؤذي نفسها
إن عدم المقدرة على الإيذاء هذه ناجمة عن التفكيك الزمني للمعنى الذي يمارس فعله بامتياز، وبالتالي فان ما يثير الانتباه في هذه النصوص ان المعنى يفصح عن نفسه بغيابه وهروبة المستمر، واستناداً إلى ذلك يكون من شأن الذوقية السائدة في الشعر أن تتبدد، بمجرد ان الشعر لا يعمل بشروطها، إن المعنى في أحسن تقريب يماثل الأزهار التي لا يكتمل عرضها أبداً إذا كان أساس العرض قائما على فكرة البحث عن الوردة الغائبة، ان الشاعر عباس بيضون حينما يظهر جزءاً مما يخلفه المعنى أنما يقصد ان لا يظهر منه شيئاً، انه يتحدث بلسان اللاشيء:
لا ترمي نواة مرة بين قلبين
ولا تلقي قشوراً في الفراغ
فما يطلع من خطأ صغير ليس شعرة
الحذر ولكن لسان اللاشيء
فلابد ان شراً يحصل
عندما ترمي حماقة كبيرة في خطأ مجهول
وبقدر ما يكون المعنى ضمنياً في الزمن، أي انه سري ومخفي وبالخفة التي تجعله يحدث في لحظة ويتغير في لحظة تحتفظ الجملة الشعرية لدى (بيضون) بسرها المتخفي وراء زمانها، وبهذا تحيل معرفتنا بها إلى أمد مجهول وبالأخص عندما يكتمل حضورها الغرائبي خروجاً عما هو سائد:
ليس هذا بالطبع أثر أفعى
إذ نحدس أن خفقة قلب
يمكن أن تترك أثراً سيئاً
وقشر برتقالة دائري يلتف على معنى اليم
بالوسع تقشير الكذب نفسه بطريقة أخرى
الخيانة قد تكون في تركيب آخر للسطور
هكذا يتحدث الشاعر عن التركيب الآخر للسطور، وما يعنيه هو أن اكتمال جملته الشعرية لا يجري من منظور ثبات حضور المعنى وانما يجري من منظور غيابه، فمن دون شك أن المعنى كائن ينقصه الكثير، إلى الحد الذي يضعف قدرتنا على تعيين معنى ما، وقد يذهب الأمر إلى أكثر من ذلك، عندما يسود المعنى من دون معنى لتكون سيادته هذه متأتية من شدة الاستعمال. غير أن الشاعر عباس بيضون لا تعترضه أية مخاوف تعيق حريته في كتابة الشعر فتراه يحيد عن أي شكل ملازم لمعنى ما، ولا تحضر نصوصه نيابة عن أي معنى يمتهن الثبات، وما يشغله ليس المعنى نفسه بقدر ما يشغله ذلك الإيعاز المتصل بالخفة والغياب والهروب المستمر الذي يشعرنا بأنه ينتهي من حيث هو يبدأ ونتيجة لذلك فأن الفاصلة الزمنية تزداد قصرا بين حضور المعنى وغيابه، ولهذا السبب لا يمكننا الوصول لمعاني عباس بيضون إلا في قارب نجاة واحد، وهو النظر إليها بخلاف أية نظرة سائدة، أن الأمر يتعلق بطبيعة اشتغاليته الشعرية التي تعتمد اللعبة التي تعود إلى نفسها على الدوام في مجرى المغامرة الشعرية، التي من شأنها صناعة جمل شعرية في منتهى الغرابة:
دون وعي يتنفس المطر في ضمير الجو
أوراق كأخمص القدم أو الراحة المكتوفة
لكنها أيضاً وجوه كاملة
القطرات كاملة في ضمير الجو ولا تسمع
أنها اللحظة التي تتم فيها قصص وذكريات
إن طروحات عباس بيضون الشعرية تستدعي تصادماً بين شعر يتقبل تهمة ان يذهب بعيداً عن نفسه ويتحمل التسليم لنقل فكرة الشعر إلى فكرة أخرى وبين الشعر القادم من تداعيات الذاكرة الشعرية الراسخة، وتدور هذه الإشكالية في إطار تعديل فهمنا للشعر، الذي يجري بين مسارين لا يحتملان إيجاد قاعدة للتعايش المشترك بينهما، فليس هناك أي فهم وسيط في ان يتملكنا الشعر أو نملكه، ان هذين الفهمين ناجمين عن الفارق بين طريقة استعمال اللغة في الشعر او اعتبار الشعر لغة قائمة بحد ذاتها، ويبدو من المناسب هنا الإشارة إلى أن الشعر يمتلك رصيداً واسعاً من القدرة على ان يكون خارج الاستقامة التي تسمح له بالخروج عن نفسه ذاتها، في حين يعمل بعض الشعراء على ترويض الشعر في سياقات بعينها قد لا تبقيه حياً لدرجة تتيح للميت منه في ان يكون أكثر قدرة من الحي، ومن هنا كان على الشاعر (بيضون) ان يستأذن من نفسه الابتعاد عن الشعر بمعناه القائم على سياقات متداولة، ان هذا الاستئذان يعد فعلاً جريئاً يوثق صلاته ببلاغة الاختلاف انطلاقاً من أن الشعر يخرق كل أمر ويشغله، فهو على الدوام قراءة جديدة للأشياء واستنطاق لمخلوقات لا تجيب، وتبعاً لذلك فأن الشاعر عباس بيضون لا يقدم البيت الشعري استناداً إلى رغبة نتوقع حدوثها:
كما يفعلون بورقة جميلة
ظنوها ميتة، كذلك انقطع
هاتفك في المحيط وامتلأ
صوتك باللباب والمحار
أو: أوراق جميلة يظنونها ميتة
لم يكن هاتفاً باسمك
لكن هكذا كلمك قدرك الصغير
إذ وصل ساعي حياتك متأخراً
إن معاني عباس بيضون هي ما تعجز المعاني عن فعله، انها شيء يحدث بين السرية والعلن، فالشعر لا يظهر موضعها على أية خارطة، لكنها تنتج أثراً مكانياً غرائبياً، هذا الأثر يأخذ دور المكمل الذي يتصل بشيء ناقص ليكمله، أن المعنى في المجموعة شيء يشبه منديلاً تلوح به يد خفية، فالشاعر لا يفتح طريق المعنى لنهايته، بل يضعنا في حالة الانتظار، تمهيداً لفهم أنماط من الإدراك المتغير لمعاني الأشياء، فالمعنى في شعر (بيضون) إنما هو بنية اشتغالية تلتحم بما هو مقصى عنها، الأمر الذي يجعل من هذه البنية طرفاً منتجاً، بمعنى أنها تتحول إلى مفهوم عمل يذهب على الدوام باتجاه التفكيك، انه كائن من غير أن يكون يجيد المراهنة على تلك المديات الماثلة بين التطابق والاختلاف:
أيها الحب لماذا لا تحضر إلاّ أسيراً
لماذا قلت للخوف أحملني
لماذا جسورك قصيرة
أو:
لا يكفي أن نزيح الستارة. الحياة
كلها تحت النافذة. نتأمل
أن يكون ذلك في متناولنا: المملحة
والبهار والورد وكواهل
الخادمات، الذكريات
التي لم تعد ملائمة لسحننا
وبتحول المعنى من فضاء دلالي إلى فضاء اشتغالي يكون بوسع الشاعر أن يستبدل المعنى بلمح غير مؤكد يضاعف قدراته على الإثارة التي تعني حيوية العبارة الشعرية وتدفع بها إلى مزيد من الرغبة في الانفلات:
أيها المساء الجميل لتكن خفيفاً
علينا، إذ النوم القرير قرب
فكرة عظيمة هو وحدة تسلية
الشتاء
إن من بين معطيات الفضاء الشعري للشاعر عباس بيضون أن يدار الشاغل الشعري بآليات اشتغال صالحة لإشاعة النص الذي (يحتوي بداخله على مبدأ تغيره) وهو العامل الأكثر أهمية في ديناميكية الإنتاج الشعري وإذكاء سيرورته.