حوار افتراضي مع الشاعر عباس بيضون

Friday 30th of July 2010 05:27:56 PM ,

منارات ,

أسعد الجبوري
كان غائر العينين وعلى حصان أحمر من المطاط .يلبس ثياب القتال، وسيوفه تساقط على أطرافه عند مدخل الشبكة العنكبوتية. بيده منظار تحت الأشعة البنفسجية. وبين شفتيه سيكار كوبي يتأرجح. كان يركب سراجاً من زجاج تملأ صفحاته كتابات أشبه بالمسمارية وصور لأرانب ونساءات وقناني نبيذ.

كان الرجل في غاية السفر. ينتظر أن تدفع الريح حصانه ليغرق في السحب البيضاء لا بين طيات رمال الصحارى. ولحظة أن تقدمت إليه، هام صائحاً:
أيتها الريح
يا باء وباء وباء
أين جهة الشعر لأمضي
في الحروف؟
هناك قلت له:
- من أنت أيها المدجج؟
- أنا العباس بن بيضون وهذا الأحمر حصاني.
- أراك وقد تعددت فيك السيوف؟!
- سيوفي تلزمني اليوم. فأنا ذاهب لجهة الزرقة.
- تقصد ميداناً لتحارب أم بحراً لتغتسل هناك؟
- لا، فمثلما أغتسلُ بعرق حصاني داخل مملكة "السفير".. مثلما أنا عاقد العزم على التعطر بحبر "جهة الشعر".
- وهل تراه باب الماء هناك فترغب بالجريان؟
- أنا من برج الحديد .وأبالي بالوقوف على باب العارف أو الجريان فيه.
- كأنك تريد القتال في المعرفة لاستعادة راية حمراء مكسورة؟
- نحن جيل راياتنا دماؤنا.
- والشعر؟
- هو مجرى الدم حتى الضلوع بالأحلام.
- الأحلام! من أين تأتي كل تلك الديدان لتغرق غرف النفس؟
- المخلوقات باصات نقل للأحلام ليس إلا.
- ونحن ماذا.سكك. مواقف. محطات فقط؟
- لا يلزمني هذا السؤال برد. فالشيوعي سكة وقطار وسفر.
- والأحلام؟
- هي حمولة كل راكب.
- ها أنت تبلغ مقام عروة بن الورد. فحذار أن يلعب بك ابن حداد اللعبة ذاتها.
- لن نترك رسالتك تبلغ أحداً. أما رأسي فلن تنزلني هناك.
- مجرد فكرة. فلا تأخذ بها لتغتني ونفقر.
- لقد مللت طقوس أسواق بيروت.هي ببحر واحد ما برح يهزل ماؤه من شدة لغط قبائل البيزنط وسماسرة المدافن، وأنا أريد السباحة في بحرين لتنظيف ما علق بالروح من صدأ وغبار وقرقرة .
- قرقرة تقول؟
- أعني قراءة الأسماء والوجوه والأصوات وخرائط الأقدام ومخازن الدم ومضخات الطوائف في لبنان.
- لن تنتهي من هذا في قرون.
- لذلك قلت سأهرب إلى تلك الجهة.
- وهل الشعر جهة أم جبهة كل الوهم؟
- الشاعر هو .. الشاعر ربما .. الشاعر أيضاً.. الشاعر ..
- هو في كل الأحوال صاحب مهنة لا تشبه وظيفة شرطي المرور. يمرر ويمنع.يعاقب ويحذر. يقطع طريقاً أو يحول جهة السير.
- لا يصح قول هذا. فالشاعر يحول سير القارئ؟
- نحو الهاوية تقصد؟
- عن أية هاوية تتحدث!! دعني أرى ما بحصاني. أجدهُ وكأن أقدامه بلغت المر في المسير.
- لا تخف على حصانك. ستسنده سيوفك القاطعة. حتماً ستبلغ مداك في تلك الأراضي البعيدة.
- كم يذكرني هذا بالعم دون!! كان يمارس عدمه في الحبّ .
- ليس أبدع منه شاعراً. دون كيشوت معركة شعرية شاملة. كان يكتب الشعر برمحه الطويل. أمامه الطواحين تعربد بشفراتها. وحصانه الأفق على مصراعيه. النضال في الشعر تطابق جوهري مع الدونكيشوتية. أليس؟
- لم أكن أقصد دون كيشوت. قصدت دون جوان.
- لا فرق. الاثنان من فلذات الشعر.
- التعاليم تقول غير ذلك.
- ما زحفت فلسفة على نص شعري إلا وأفسدت ترابه.
- أنت تقول هذا. الشعر خزينة تضج بمختلف المجوهرات والمعادن.
- كم فيك من ناقد مشتت.
- لا مشتت غير حصاني الآن. الجهات تتفتح. الجهات تضيق. الجهات ترتفع بالحدود. الجهات مليئة بالأفران. الجهات بنوك آلام. الجهات معاصي في الشعر وترف في المعرفة. ما من جهة إلا وتبدأ بباب النار.
- فادخل.
- لست مريضاً لأتطهر بالنار. واستعدادي لذلك بعيد.
- ألهذا أنت كثير التأبين مؤخراً.
- من كثرة ما في الموت من رحلات. أنا أعزي الكتاب أولاً. ثم أعكف على تأبين الكاتب الشاعر الفنان ثانيا.
- ونصوص الشعر.. ألا تستحق التأبين بين الفينة والأخرى؟
- الشعراء قتلة نصوص. لا يجيدون التأبين. ولا وقت عندهم لذلك. كم رأيت في حياتي من قتلة النصوص. يا للهول!!
- وأنت ألا تقتل نصاً لك أو نصاً لسواك؟
- سأسأل سيوفي حالما تستريح وتهدأ.
- ولكنك شاعر شقاق كما أعلم؟
- التشقيق لعب شعري. وأنا أميل لجر النهر إلى نصوصي. وكم شققت من صور ومعان في نصوصي لأبلغ اللعبة الكبرى.
- وما منسبة الجمال في قصائدك؟ هل يجرحك ذلك الجمال؟
- الجمال في شعري منسوب استراتيجي. كلما تجرح أحد منه، صار نصاً معتقاً.
- هل الشعر فيك برادار؟
- لا. الشاعر عندي شبيه بزهرة عباد الشمس.
- تدور لتلتقط؟
- لا جمر هناك ليلتقط. وما من رادار خارج الشاعر.
- هل ضعت شعرياً في قطعة من زمن ما؟
- ربما. لقد مررت بمقاطعة من مقاطعات السبات وخرجت.
- الحب في النص..؟
- هو دم الجسد. ولا بد من تحسين ظروف تدفقه.
- هل تراه قليلاً عندك، وكأنه لا يريد أن يدوم؟
- أنا في الحب سريع الانخطاف. وهو يدوم ولا يداوم.
- سأتركك لحصانك مع الريح. فأنت مقبل على سفر. خص من يخرج عليك من الشبكة العنكبوتية بثمر المودة. لا تكرس التوجه في الجهة، لئلا تفقد الاتجاه. وليكن بين الشعر والأقفال دوام عدم الامتثال للرموز. فلم يعد الشعر يتحمل ساعات الحائط. زمنه الآن يعمل بطاقة أخرى. فوراء كل سعة اتساع. وأعظم الشعراء: التوسعيون.

ناقد وشاعر عراقي مقيم في استراليا