مقالة لم اكتبها

Monday 13th of October 2014 06:47:38 PM ,

كان زمان ,

قرأت بمتعة وحسرة وحيرة المذكرات التي كتبتها ارملة الكاتب العالمي ارنست همينجواي.. لا احد يعرف هل مات.. هل انتحر.. والنتيجة واحدة، فهو احد المفكرين الخالدين في الادب..


".. وعلى الرغم من ان ارملة المرحوم تؤكد بين كل عشرين سطراً، والعشرين التي تليها انها زوجة عادية، وان الصدفة فقط هي التي جعلتها زوجة لمدة 17 عاما لهذا الرجل العظيم.. الذي علمها نفس الحياة، وعلمها المغامرة والصيد والصبر والقراءة والتأمل.. وهو الذي طلب اليها الا تكتب مذكراتها عنه، ما دام حيا، فان هذه المذكرات تجعلها يشعر ان هناك انسانا اخر يراقبه في البيت.. انسانا ليس صديقا ولا غفورا ولا رحيما به وبحياته ونزواته..
".. وقد تواضعت ارملة الكاتب الكبير كثيرا جدا.. فتحدثت فقط من الراحة والهدوء اللذين وفرتهما في البيت.. ومن السلام الذي نشرته بين لاصدقاء وبين الصحفيين والمحامين والناشرين والمعجبين والمعجبات.. وخصوصا المعجبات.
".. وعلى الرغم من انها تؤكد دائما انها ليست الا سيدة عادية عبرت في حياة رجل غير عادي، الا انها تنسب الكثير من الفضل لصفاتها العادية.. وتجعل هذه الصفات العادية شبه مخدة من ريش النعام وضعت تحت رأس الكاتب الخالد، في العملية السابقة على تأليف قصته:"العجوز والبحر".
فهذه المخدة المتواضعة، واليد المتواضعة التي اسندت المخدة الى رأس الكاتب، هي المسئولة عن هذا العمل الفني الرائع..
".. بهذا التواضع، وهذه البساطة اصبحت هذه الارملة هي المسئولة عن عظمة الفنان ارنست همينجواي.
".. وتخيلت نفسي عظيما.. كاتبا كبيرا، وتخيلت انني مت – وعلى احسن الفروض - موتة عادية جدا.. كبرت في السن.. جفت يدي.. مات القلم من يدي.. تحجرت رأسي.. مت.. قبل ان اموت جسميا.. مت عقليا وادبيا.. وجاءت ارملتي وكتبت مشروع مقال.. او مشروع مذكرات عن حياتها معي.. من الايام الاول من حياتنا..".
***
قالت ارملتي: لا اعرف كيف ابدأ.. فقد كانت حياتنا معا بلا بداية.. وجاءت النهاية مفاجأة لي.. انني لم اكن اتصور انه سيموت.. او سينتهي بهذا الشكل اما هو فكان يعرف نهايته.. يعرف انه سيموت منذ ولد.. لقد كان يستعد للموت.. لقد امتنع عن الطعام وعن الشراب ومن السهر. امتنع عن الحياة.. كان يخاف المرض.. وكان يرى ان المرض هو مقدمة للموت.. اي مرض هو ثورة.. وتمرد.. هو انقلاب دموي في داخل الجسم.. معارك بين الملايين من البيض والحمر في الدم.. وتنتهي عادة بهدنة.. بوقف اطلاق الناء.. ثم يموت اكيد..
انه كان يعرف انه سيموت.. ولكنه على طريقته – الله يرحمه – كان يخفي عني كل شيء.. لم يكن يثق في.. فقد كان يعلم ان قلبي رقيق.. وانني لا استطيع ان اتحمل اي شيء.. اي تعب له.. اي مرض.. اي؟".. اذا اوجعته رجله، وكان المرحوم يشكو منها كثيرا، كنت اظل طول الليل ساهرة.. دمعي على خدي، وخدي على يدي، ويدي على جنبي، وجنبي على المخدة الاخرى، وانسى انني ايضا مريضة.. وانني مرضت من اجله كثيرا، وتعبت من اجله، وبكيت من اجله وتعذبت من اجله، واطعمته وجعت، وسقيته، ورويت شفتي بلساني.. وكنت اعرف كل ما يدور في رأسه، بمجرد النظر اليه.. الى عينيه، الى ابتسامته.. كانت حياتنا سعيدة.. اننا لم نكن نتكلم كثيرا.. كنت انا الذي اتكلم، اما هو فكان لا يتكلم، كان صامتا.. انه لم يقل انه يحبني الا بعد زواجنا بسنوات..
لقد صارحني، بانه كذب علي مرتين.. مرة يوم قال: انه يحبني لاول مرة.. قالها وهو سعيد.. ولم اكن اتوقعها منه.. ويوم قال انه يريد ان يتزوجني.. لم يكن يعني ذلك انه قالها لارضائي فقط.. وكان رحمة الله عليه، لا يعرف كيف يكذب.. فقد صارحني، على فراشه، قبل نهايته بليلة واحدة.. انه لم يحبني لا هذه الايام.. وانه يتمنى ان تنفصل هذه الايام لكي يتزوجني مرة اخرى.. او لاول مرة.. لكن اصبحت اليوم امه، واخته، وزوجته، وممرضته التي لا تنام الا والحقنة في يدها، والدواء في جيبها، والدموع تنهال من عينيها الى فمها.. وقد حاولت كثيرا ان احول المرحوممن فصيلة العصافير الى فصيلة البط.. فقد جعلته ذكر بط، ثم جعلته بطة.. تحب القش، وتبيض وتفقس فيه.. ثم حولت البطة الى انسان له قلب وله عقل..
يحب البيت، والبقاء في البيت والعودة الى البيت.. انني لا ادعى انني حققت معجزة.. ولكن الذي فعلته كان صعبا، لم اكن اتصور انني قادرة في يوم من الايام على تحقيقه.. ولم يكن هو يتصور انني ساستطيع، ولا انه سيقبل هذا التغير..
وعرفت فيما بعد ان زوجات الادباء والفنانين يتعذبون في عملية تحول العصافير والغربان والصقور الى دجاج يبيض. دجاج له عش وله اطفال صغار.. رغم ان الله لم يرزقنا بالولد او بالبنت.. فقد كان يخاف ان تصاب اولاده بكل الامراض التي ورثها عن اجداده.. كان المرحوم يؤمن بقانون الوراثة.. وكنا نضحك معا.. وكان يضحك كثيرا، ويسألني: صفي شعورك، لو جاء لك ولد كالقرد مثلا! ورغم ان هذه نكتة.. او ليست نكتة، ولا نستطيع ام ان تضحك لها، الا انه كان يضحك لها كثيرا، وكنت اتعذب من هذه النكتة.. فقد كان المرحوم دمه خفيفا.. وكنا نقيم وحدنا في بيت وكنا سعيدين.. هو وانا وخادمتي.. ولكن كنت اشعر في احيان كثيرة اننا لسنا وحدنا.. بل لم اكن اشعر ابدا اننا وحدنا.. فقد كان يحدثني عن امه.. وعن طفولته التعيسة جدا.. وعن امراض والده، وامراض كل الناس..
وكان ينسى انه ليس مريضا.. وانه لم يعد طفلا.. وانه لم يعد تعيسا. وانه لا يكاد يراني حتى يحدثني عن عذابه وشقائه. كان المرحوم"ينكد"علي عيشتي بحديثه عن كل الناس.. وكان يعتقد ان الحياة ليس لها طعم.. وانه حاول ان يجعل لحياته طعما ولونا.. وانه عجز عن العثور على هذا اللون.. وانه حتى هذه اللحظة – لحظة موته – لا يعرف بالضبط ما هو لون الحياة.. ابيض.. اسود.. واذا كان كل شيء ابيض، فمعنى ذلك انه لا توجد الوان.. واذا كان لونها اسود، فمعنى ذلك انه لا يوجد لون.. ولا يوجد شيء.. فلكي نرى اللون الاسود، يجب ان تكون هناك الوان اخرى.. او يجب ان يكون هناك نور لكي نرى اللون الاسود.. لكي نرى الظلام.. وطلب مني المرحوم ان اطرح هذه المشكلة على الادباء والفنانين.. وان احاول ان اعرف الجواب على هذه المشكلة..
نسيت ان اقول انه كان لطيفا وكان رقيقا وخصوصا عندما يحاسبني على الفلوس اين راحت واين ذهبت وكيف ذهبت.. وعرفت فيما بعد ان حالة الفزع والرعب التي كانت ترتسم على وجهه، لم يكن سببها البخل، ولا سببها الحرص على المال، وانما سببها انه يتصور اللحظة التي ساذهب فيها الى البنك، واكتشف انه ليس لديه ولا مليم.. لقد كان المرحوم كريما، وكان لا يعرف قيمة الفلوس.. وكان يثق بي ثقة تامة، وكان يؤمن بانني ساستطيع ان اعيش من بعده.. وان اعيش من غيره.. فانا ما ازال شابة.. وحلوة.. لقد كنت احب ان اسمع هذه الكلمة الاخيرة.. ثم انني اعرف عددا كبيرا من الناس.. وكان من رأيه، انني اذا فكرت في الزواج – ويجب ان افكر – فلا ينبغي ان اتزوج اديبا او كاتبا او فنانا.. لا لان هذا الاديب سيناقش افكار المرحوم وفلسفته، ولا لان هذه المناقشة سبب في تنقيص حياتي معه، ولكن لان الادباء والفنانين هم اتعس الازواج واشقى الادباء، واكبر مقلب تشربه الزوجة.. الله يرحمه لقد كان صادقا، وقد عرف هذه الحقيقة قبل ان يموت.. الله يرحمه..!".
ويرحمني.. ويرحمك!
انيس منصور

المصور / آذار- 1963