الإيمان بالعقل وآية الخلق الكوني رؤياه المتجذرة: الصلاة فـي محراب هاني فحص العاشق الرباني

Wednesday 24th of September 2014 08:25:56 PM ,

عراقيون ,

فخري كريم
إحساسٌ لم أعهده في حياتي، استولى عليّ وأنا أتعثـر في مشيتي خلف جنازة هاني فحص، المرفوع على هامات محبيه، من بيته في ضيعة جبشيت الجنوبية، الى مدافن الضيعة. لو حدثت نفسي بهذا الإحساس قبل عقدين من الزمن، حين كان صندوق المعرفة يضيّق على الفكر مساحة تراتيله وتهدجاته، بما تحدد للصندوق من أبعاد تخنق الاجتهاد، وتمنع الابحار في عوالم المعرفة الانسانية، لقلت انها مرحلة ارتدادٍ عن الفكر والوعي والهداية بالقيم الانسانية العليا.


كدتُ أفضح نفسي، وأنا أستجيب لحوارٍ مع هاني فحص، المحمول أمامي، وهو يتبسم لي، ويرد على تساؤلاتي: لن أخفف عليك محنة السؤال، تستطيع أن تقول كل شيء، أو لا شيء! لكنني لن أقول لك ما تريد أن تسمع مني، حتى لو استمر بكاؤك الى يوم القيامة!
اعرف أن ذاكرة الانسان تظل طرية، تستجيب لحافزٍ قوي بالاستعادة المعرفية، وفي تشكيل الصور، وقد ترسم مقاماتٍ وأشكالاً تركت إشارتها في الخارطة الجينية منذ السنوات الاولى للتكوين. لكن هاني كان امامي، وأنا أسير متعثراً، يبتسم، وربما يسخر بابتسامته، وهو يتحدث معي في جدل الوجود والعدم، وفي المساحة التي لم يستطع الانسان حتى اللحظة أن يهجر تساؤلاته حول لحظة التحول في مساماتها.
وأنا اكتب، اراه يتابع حروفي، ويقول: الآن، أنت ستصحح ما تكتب، وتتوهم انني افعل ذلك، لكنه وهمٌ كالحقيقة، وهذه هي صَلاتي التي لم تستوعب التَماسّ معها كلما حاولت مقاربتك مع مفهومها!
كلما كنت أسأله، بصيغة هي أقرب الى الاستفزاز والتشكيك، كيف تميّز تديُّنك عن الدين التقليدي، لبشرٍ تستوي عندهم الطقوس مع أدوات الخديعة؟
كان يقول بهدوئه المعهود، وثقته بإيمانه، انه "سر السريرة، ومكمن الوديعة" التي يستحيل أن تتكرر بين إنسانٍ وآخر. وهذه السريرة
لها بصمتها الوراثية، لكنها هي الأخرى تتميز من إنسان إلى آخر!
يوم زارني في بغداد، ذهبنا سوياً الى عرسٍ جماعي نظمته مؤسسة المدى، ومع بدء الفعالية، شعرت بالإحراج، وقد بدأ الرقص والغناء. شاورته: هل أحرجتك؟ أجاب بعفوية: بل أحرجت نفسك! فالمؤمن المغصوب على معصية، ليس بعاصٍ، بل له ثواب ونصف، ثواب لأنه تحمل الغصب، ونصف لانه هداك لتعتذر وتخرج معي، مع انني لا ارى في المشهد ما يخدش لولا التقويل المسيء!
ليس لإنسان أن يتجنب عثرات الحياة، أو ينجو من سهامها، لكن بعض الناس، وهاني منهم، يستطيع بتكيفه، أن يزوغ عن مكامن الخطيئة، دون ان يتسبب لغيره بأذى. لم يكن يتطرف في إظهار الزهد أو التعبد أو تجنب المحارم والمعاصي. وكلما تشبّه له أن أحداً يترصده، يقابله بكلمته المأثورة: يا عمي خلني ويا ربي..!
يعرف هاني فحص أمهات القصائد، في كل ميادينها، واجملها في الغزل والحب وألوان أخرى، يرددها متدينون في سرهم، ويستغفرون الله كلما رددها على أسماعهم المنشدون. ويحفظ رواياتٍ ومسرحياتٍ وأساطير وحكاياتٍ من الطفولة وكتباً تتناول العلوم الحديثة، ولم يترك ماركس وانجلز ولينين وغرامشي قبل ان يحاورهم في مؤلفاتهم ونظرياتهم الضد عقائدياً. كان يقول انه يغتني بقراءة كل ما يبدو ضداً، ولا يعرف الجاهل أو الاعمى ايمانياً، أن الاضداد هي التي تحقق التوازن الانساني، وتمنح الحياة التنوع، وحب المعرفة واكتشاف الجديد، وتجاوز الغفلة!
يوم عرفته، رأيت نموذجاً يقربك من الإيمان المطلق دون أن يخدش منظومتك الفكرية. فالصلاة لحظة تجلٍ روحية، والوضوء نظافة، والصيام احساس يقربك الى التائه في الصحراء..
والعمامة والجبة..؟ مضمارٌ يتساوق مع المُضْمَر، فيقيه ويتقي به. ولماذا يستفزك، وهو لا يغويك بارتدائه، الا اذا كنت مشروع منافقٍ أو دجال..!
سألته يوماً، كيف تستطيع التعايش مع الأسئلة الكبرى؟
أجاب: اقترب من كل سؤالٍ وأنا اصلي، فأتشبع بالسكينة والإحساس بالاقتراب منها..
و..
ارجوك ارحمني: لا تكفرني..!
لم اكن اريد ان اكَفِّره، وكنت أقول له دائماً: ان عقلي ليس حاملاً معرفياً بما يجعلني اتعالى على محدوديته، وهي إشكالية تتداخل مع دوافع الايمان الدفينة في اعمق اعماق الانسان، في "فص العقل" الذي يمتد الخوف في كل تضاريسه. وكم كان يشعر بالرضا وانا أعيد على مسامعه: الايمان والالحاد، يتعكز احدهما على الآخر فيتكاملان، لانهما دعوتان للاستفاضة من وعاء العلم الذي يتسع، خلافاً لكل وعاء يفيض بما فيه.
الإلحاد طريق الإيمان، ووسيلته العلم والمعرفة الموسوعية.
هذه قاعدة أخرى من قواعد العشق التي لم يذكرها شمس التبريزي لجلال الدين الرومي..
أيمكن أن نكون قد تبادلنا الادوار، في لحظة استشراف، فتلبستني تلك الحالة التي كنت أسير فيها وراء جنازة السيد الفقيه، دون أن أدري..؟!

افتتاحية جريدة المدى الاحد ونشرت بالتزامن مع جريدة الحياة اللندنية