مشاريع الري في العراق 1869 – 1914

Sunday 26th of December 2010 06:41:12 PM ,

ذاكرة عراقية ,

د. سندس الزبيدي
باحثة ومؤرخة
لم تبدأ الدولة العثمانية ، وحتى بدايات القرن العشرين ، الاهتمام الكافي بمشاريع الري في العراق بالرغم من أهمية هذه المشاريع للزراعة التي كانت تعد العمود الفقري للاقتصاد العراقي يومئذ. واقتصر لاهتمام بهذا المجال على جهود فردية اضطلع بها بعض الولاة العثمانيين الذين تعاقبوا على حكم العراق .

وكان لطبيعة ارض العراق ومواسم فيضان نهري دجلة وفرات، وتوابعهما تأثيرها السلبي في الري في العراق. فبالنسبة لطبيعة الأرض نجد أن ارض العراق تأخذ بالانبساط والاستواء التدريجي كلما اتجهنا من الشمال إلى الجنوب، وبالتالي كانت مناطق وسط العراق وجنوبه ابتداءً من شمال العراق بغداد وتكريت على دجلة وهيت على الفرات، وحتى شط العرب عرضة لخطر الفيضان أكثر من غيره من المناطق.
أما بالنسبة لموسم فيضان نهري دجلة والفرات فلم يكن هو الآخر مناسباً للزراعة، فهما يفيضان في آخر فصل الربيع وهو موسم مبكر للزراعة الصيفية وموسم متأخر جدا بالنسبة للزراعة الشتوية، أما المسألة الأخرى فهي توافق موسم الفيضانات في بعض الأحيان مع نضج المحاصيل الزراعية، الأمر الذي يؤدي إلى إغراق المحاصيل الزراعية وإتلافها.
فضلاً عن هاتين المشكلتين عانى الري في العراق من مشاكل أخرى منها انه لا توجد شبكات لتصريف المياه، علاوة على مشكلة الرواسب (طمي الانهار)، التي كثيراً ما ترتفع في بعض الترع والجداول وتؤدي إلى إغلاقها وبالتالي انحسار الماء عن قرى ومزارع أهله بالسكان فيضطر أهلها إلى الهجرة وترك الزراعة .
وكان لهذه العوامل مجتمعة فضلاً عن عدم اهتمام العديد من الولاة العثمانيين بقنوات الري وتحسينها، انعكاساتها السلبية في التقليص الأراضي الزراعية وانخفاض الإنتاج الزراعي.
بالرغم من إمكانات أراضي العراق الزراعية الهائلة، وقد أشار الرحالة اوليفييه الذي زار العراق في منتصف العقد الأخير من القرن التاسع العاشر ـ الى ذلك بقوله “لو وزعت مياه دجلة وأقنية الفرات على الوجه الأحسن لتحولت الاراضي الجرداء الى أراضي زراعية ولا يوجد في العالم منطقة أغنى وأجمل من بغداد وما جاورها. كما تطرقت احدى الوثائق العثمانية الى الاهمال الذي امست عليه الاراضي الزراعية في ولاية الموصل ومما جاء فيها “كانت اراضي ولاية الموصل مهملة ومعطلة رغم صلاحيتها للزراعة ، في حين كانت اراضي لوائي السليمانية وشهرزور (كركوك) عاجزة عن سد الحاجات المحلية من المحاصيل الزراعية” .
اما بالنسبة لاساليب الري فمن المعروف ان اراضي المنطقة الوسطى والجنوبية تروى سيحاً من مياه نهري دجلة وتفرعاتها ، فهناك اراضي تروى بواسطة الترع والسواقي يطلق عليها “ماوي” او “سكي” وهناك الاراضي التي تروى بواسطة الات رفع المياه كالدواليب والنواعير فتسمى “كردي” او “جردي” اما الاراضي التي تغمر بالمياه فتسمى “كبيس” او “جبيس” ، وهناك الاراضي التي تعتمد على الامطار وتسمى الديم . في حين استخدمت بعض المناطق ولاسيما القريبة من ضفاف الانهار ، المضخات والالات الحديثة.
حاول اخر ولاة المماليك في بغداد وهو داؤد باشا الاستفادة من ثروات العراق الزراعية والاروائية والعمل على توظيف هذه الامكانيات خدمة
للاقتصاد الزراعي ومن خلال احيائه لبعض المشاريع الاروائية فقد حفر شط الهندية . فضلاً عن احياء عدد من الانهار المندرسة ومنها نهر عيسى الواقع غرب بغداد ونهر النيلحيث استخدم لكريه (5000) عامل وانجز العمل سنة 1242هـ/1826م كما يعود الفضل الى هذا الوالي في انجاز مشروع لرفع المياه من نهر دجلة .
وقام والي بغداد محمد رشيد الكوزلكي بفتح نهر الهارونية والمشيرة(*) في ديالى بالقرب من المقدادية فضلاً كريه لعدد من الانهار والقنوات منها نهر الدجيل في منطقة بلد التابعة لقضاء سامراء حالياً وجداول النيل والشاه والعوادل والبوجماع والباشية والجربوعية والشوملي الكبير والشوملي الصغير.
واستعان والي بغداد نامق باشا بخبرة احد المهندسين المصريين المختصين بالري لتحسين القنوات المندرسة . لكن أي من تلك المحاولات لم تحقق اية نتائج ايجابية اذ استمر تقلص الاراضي الزراعية وتدهور وضعها بشكل خطير . حتى مجئ مدحت باشا ، الذي ابدى اهتماما في مجال الري وتحسين معدلات الانتاج الزراعي من خلال اتخاذه لعدد من التدابير لاصلاح الاراضي الزراعية .
وعلى اثر تحول مياه الفرات الى فرع شط الهندية ، بدلاً من فرع الحلة ، الذي شحت فيه المياه . وجرت محاولات سابقة لعهد الوالي محت باشا لمعالجة تلك المشكلة . وترقى اولى تلك المحاولات الى سنة 1252هـ/1836م ، عندما قام الواليان علي رضا باشا اللاز ، ومحمد نجيب باشا (1258 ـ 1266)هـ/(1842 ـ 1849)م ، بانشاء سدة على فرع الهندية لغرض تحويل مياه الفرات الى فرع الحلة ، الاان السدة مالبث ان تحطمت سنة 1268هـ/1851م وتدفق منها الماء ، وفي سنة 1275هـ/1858م بني سد جديد لتوفير المزيد من المياه الاانه مالبث ان تصدع .
وامام فشل تلك المحاولات وكثرة شكاوى الاهالي من استمرار الحالة شكل الوالي مدحت باشا لجنة مؤلفة من عدد من مهندسي الري ، لوضع دراسة تفصيلة ومقترحات عملية لمعالجة تلك الحالة . حيث استمر العمل لمدة تزيد على الثلاثة اشهر ، ويبدو انه تغلب على المشكلة بدليل اشارة جريدة (الزوراء) الى ذلك احد اعدادها ، ان نهر الحسينية(*) الذي يبس ماؤه من ثلاثة اشهر ، واوقع النفوس الوافرة العدد في كربلاء باظطراب العطش ، وصات عملياته مرتب الختام واطلق ماؤه . الاان هذه المشكلة لم تنته اذ سرعان ماعادت وتجددت من جديد بعد سنوات .
فكر مدحت باشا في اعادة ربط نهري دجلة والفرات . عن طريق قناة الصقلاوية لتحقيق هدفين رئيسين اولهما احياء الاراضي الزراعية الممتدة بين نهري دجلة والفرات وتحديدا مناطق غرب بغداد بهدف تشجيع الزراعة من جهة ولتامين مرور السفن النهرية الى اعالي نهر الفرات لغرض التجارة والنقل من جهة اخرى ، حيث بوشر في العمل الذي انجز وصار يعرف بسدة مدحت باشا . الاان عدم اتخاذ الاجراءات اللازمة لتدفق المياه الغزيرة وقت الفيضان ، ادى الى نتيجة عكسية ، سرعان ماشقت تلك المياه طريقاً جديدا الى مجرى الصقلاوية مما ادى الى خراب الارضي الواقعة اسفل الفلوجة .
وفي الوقت نفسه نشر احد المواطنين اقتراحا على احدى صفحات جرييدة (الزوراء) طالب فيه السلطات العثمانية بالافادة من قناة النهروان ، والعمل على استصلاحها من خلال انشاء سد في منطقة دلي عباس (المنصورية) ، الواقعة اسفل النقطة التي يلتقي فيها نهر ديالى بالنهروان ، الاان مدحت باشا فشل في تحقيق ذلك بسبب عدم صلاحية مواد بناء السد لمقومة تيار المياه . فضلاً عن عدم تخصيص حكومة استنبول المبالغ التي تيطلبها تنفيذ هذا المشروع .
كما عمل مدحت باشا على حفر عدد من الانهار المندرسة وتطهيرها ، ومنها قناة قزلباط (السعدية) . ونهر عبد الله الواقع في قضاء (الجزيرة) ، الذي عرف فيما بعد بالحميدية ، وقد نجم عن هذه الاعمال احياء اراضي كثيرة .
كما عمل مدحت باشا على توفير المياه اسقي البساتين في جانب الكرخ من خلال حفر قناة الكنعانية القديمة ، واخذ جدولاً صغيرا الى قصبة الكاظمية لغرض سقي البساتين وسمي هذا النهر بـ (نهر الطليعة) .
ولم يكن النجاح حليف غالبية المشاريع التي اضطلع مدحت باشا بتنفيذها في العراق . وقد عزي سبب فشل تلك المشاريع الى نقص الاموال ، وقلة الخبرة الفنية فضلاً عن انعدام الدراسات الاولية ، والعمل بشكل مرتجل في اغلب المشاريع الاورائية ، علاوة على عدم اهتمام الولاة من بعده بتلك المشاريع . وقد شخص لونكريك اسباب فشل هذه المشاريع بقوله "ان الاعمال لم تكن تتعدى القيام باجراءات لتنظيم الاعمال المحلية والطفيفة ، حيث ان الاداة لم تمتلك المعرفة ولا السيطرة ولا المال الضروري لذلك" . وابدى بعض الولاة الذين اعقبوا مدحت باشا نوعا من الاهتمام بموضوع الري ، ولو بشكل نسبي ومحدد ، نذكر منهم والي بغداد رديف باشا (1873 ـ 1875)م الذي انشأ سد الجزائر الاانه لم يكن محكم البناء ولم تتبع في بنائه القواعد العلمية مما ادى الى تصدع السد وانهياره .
وفي اطار جهود السلطان عبد الحميد الثاني لاصلاح احوال العراق بشكل عام والواقع الزراعي بشكل خاص الذي تزامن مع استحداث الدائرة السينية ، "دائرة قومسيون السنية" فقد تم الايعاز الى بعض الولاة لتقديم افضل السبل والمقترحات لاصلاح احوال العراق وامتثالاً لهذه الاوامر قدم والي بغداد عبد الرحمن باشا (1879 ـ 1881)م تقريراً الى السلطان العثماني عرض فيه صورة تفصيلية للاوضاع التي كانت تعيشها بغداد ابن تلك المرحلة واما الزراعة والري فقد اشار الوالي في تقريره الى تدني مستوى الزراعة والري ، وقد اقترح انشاء السدود لخزن المياه ، لاستخدامها عند الحاجة ، كما تطرق الى ماتسببه الفيضانات من اضرار كبيرة على المزرعات ، علاوة على تاكيده تجفيف المستنقعات بغية استغلال اراضيها للزراعة ، ناهيك عن التخلص من المخاطر التي تنجم عنها .
ثم الحق الوالي بهذا التقرير تقريرا اخر تطرق فيه الى قلة الاهتمام بمشاريع الري بقوله "لن العراق يمتلك قوة زراعية هائلة بسبب الانهار التي تجري في اراضيه ، والتي تكفي لسقي مساحات كبيرة من الاراضي الزراعية ، وان الدولة العثمانية لو اهتمت منذ دخولها للعراق بمشاريع الري الزراعية ، كما يجب لكان العراق قد قطع شوطا كبيرا في مضمار الاعمار والازدهار ، الا ان الولاة الذين تعاقبوا عليه لم يكونوا من ذوي الكفاءة والجدارة ، ومن كان منهم يتمتع بالقدرة والكفاءة كان يقول من منصبه بعد مدة على تعيينه" .
وعلى الرغم من قصر مدة ولاية هذا الوالي ، الا ان اعماله في مجال الري كانت بارزة ، وخاصة في منطقة الحلة ، حيث عمل على حفر عدد من الانهار والجداول وتطهيرها منها العوادل والظلمية (في ناحية المحمودية) ، والباشية ، والبوحسان ، والعينية ، والدولاب ، والخاتونية .
ومن ضمن التقارير الاخرى التيى تم رفعها الى السلطان عبد الحميد الثاني التقرير الذي تقدم به والي البصرة مضهر باشا سنة 1298هـ/1880م الذي تطرق فيه إلى انعكاسات الاوضاع السياسية المضطربة التي عاشها العراق عبر تاريخه الطويل ، على الزراعة والانتاج الزراعي عندما قال "مما هو ثابت تاريخيا ان العراق كان مقرا لدول معظمة في العالم مثل البابليين والاكاسرة والعباسيين وكان يتمتع بمستوى عال من العمران والازدهار ،
الا ان النكبات والصدمات الاخيرة ألت به الى الضعف والانهيار ، وانخفضت نسبة الاراضي فيه اليوم الى واحد من عشر مجموع الاراضي الصالحة للاعمال الزراعية ..." .
وفي تقرير اخر ناشد الوالي نفسه السلطات العثمانية الاهتمام برفع المستوى الزراعي، والتصدي الى الاطماع الانكليزية الرامية الى نهب خيرات العراق بقوله ان "الانكليز يطمحون في الاستيلاء على البصرة ، وان بقاءها في حالة التخلف يخدم مصالحهم ويمهد اهم السبيل لتحقيق اطماعهم ، من اجل ذلك فهم يعرقلون كل حركة اصلاحية تهدف الى تصحيح الاوضاع في البصرة وتحقيق الرفاه الى اهلها ..." .
وعلى اثر تعرض سد الكنعانية الواقع قرب الصقلاوية للتصدع اوعز والي بغداد مصطفى عاصم باشا (1305 ـ 1307)هـ/(1887 ـ 1889)م ، باعادة بناء هذه السدة حيث اشرف بنفسه على اعادة تعميرها .
كما عانت النجف هي الاخرى من مشكلة شحة المياه ، فعلى اثر استغاثة اهالي النجف بهذا الوالي ، اوعز الاخير الى عبدى الغني افندي في الجمارة (الحيرة) بالاشراف على حفر نهر من الجمارة ، لان نهر الهندية اتسع واجتاز الكوفة ومنها الى الجمارة ، حيث قام بجمع العمال من عشائر الفرات المجاورة للنجف ، واستغرق العمل (46) يوما ، اخذ النهر يصب في بركة كبيرة في بحيرة النجف الجنوبية ، وقد سمي هذا النهر بنهر عبد الغني افندي نسبة الى مأمور السينة عبد الغني افندي ، وكان حفر هذا النهر سنة 1306هـ/1888م . الا ان هذا النهر سرعان ما تعرض للاندثار بفعل عوامل الرياح والرمال وتحديداً في سنة 1309هـ/1891م .
وفي اعقاب تجدد المشكلة القديمة الناجمة عن تحول مياه الفرات إلى شط الهندية بدلاً من شط الحلة ، اسهمت دائرة السنية في ايجاد حل مؤقت لهذه المشكلة عندما اوعزت بتشكيل لجنة مؤلفة من متصرفي الحلة وكربلاء ، ومحسن بك مدير الكشف في دائرة السنية الذي
قام بكشف الهر واوصى بسد جزء من صدر فرع الهندية المسمى "الردارء") فضلاً عن ظاهر افندي وكيل السنية ، وبعض اصحاب الجنرة ونتيجة لاعمال هذه اللجنة فقد تمت ازالة مافي النهر من الموانع كالجزرات وغيرها.
ما والي بغداد سري باشا (1889-1890م)(1307-1308هـ) ، فتركزت اعمال الاروائية في إنشاء سدة ضخمة تم انشاؤها لمنع تسرب الفيضانات إلى وادي الصقلاوية القديم ، غير انها ما سرعان ما تعرضت للانهيار فيصما بعد نتيجة ضغط مياه الفيضانات .
كما أمر الوالي نفسه بانشاء سد اخر إلى الشمال من سدة السرية ، عرف باسم سد البرمة ، بهدف منع تسرب مياه الكسرات التي قد تحدث إلى مجرى الهر الصقلاوية عن طريق الوادي المسمى (بازول البرمة) .وعلى اثر تفاقم مشكلة مياه شط الحلة التي اخذت بالجفاف اثر تحولها إلى شط الهندية وما رافق ذلك من تدهور في انتاج المنطقة الزراعية نتيجة لعدم توافر كميات المياه الكافية لسقي المزروعات ، وفي اعقاب انقطاع المواصلات الهندية على طريق نهر الفرات بين الحلة والبصرة . وعلى اثر استغاثة أهالي الحلة والديوانية ، انصب اهتمام الدولة ابان تلك المرحلة على إنشاء سدة الهندية . وكانت فاتحة اعمالها استقدام المهندس الفرنسي شوندرفرM. Schonder ومساعده ثيودور دوران ، اللذين اجريا كشفاً للمنطقة الممتدة على طول نهر الفرات وحتى مسكنه تمهيداً لإنشاء السدة . وبعد عام تقريباً قدما تقريرهما إلى الوالي سري باشا معززاً بالخرائط . وقد احاله الوالي بدوره إلى وزارة النافعة والاشغال العامة لاستحصال المواقفة على تخصيص الاموال اللازمة لتنفيذ المشروع وقد اسهمت خزينة الدولة بنصف الاموال المطلوبة ، أما النصف الاخر تم تأمينه من الخزينة الخاصة ، وواردات الاراضي السنية(*) ، وممن كانت له مصلحة من الأهالي في بناء السد ، حيث بلغت مجموع الأموال المستحصلة للمشروع 1.733.998 قرشا و 33 بارة .
جرى البناء بوتيرة عالية وبإشراف من الوالي سري باشا ، حيث قدمت جدرية (الزوراء) في أحد تقاريرها وصفا لمساحة السد ، الذي امتد من نهر الهدية إلى مجرى الحلة وبارتفاع (6) أمتار، وعرض(100) متر ، وبطول 1200 متر .
كما ناشد الوالي رؤساء عشائر الحلة والهندية المساعدة ، فاستجابوا وأمدوه بعدة آلاف من العمال الذين تمت الاستعانة بهم في حفر صدر السد . وجرى افتتاح السد في 25 تشرين الثاني سنة 1308هـ/1890م وعرف باسم "سد شوندرفر" تيمناً باسم مهندسه . ونتج عن بناء هذا السد إعادة المياه إلى شط الحلة، كما تشير بعض الدراسات إلى أن المياه الزراعية عادت إلى مجاريها إذ بدأت الحياة الاقتصادية في الحلة والمناطق المحيطة بها بالانتعاش من جديد بعد الانتهاء من أعمال تلك السدة سنة 1308هـ/1890م . غير أن السدة لم تصمد طويلاً ، لأسباب عدة منها الترسبات المستمرة ، متانة البناء . مما أدى إلى خراب أجزائها منها فيما بعد .وفضلاً إلى هذه الجهود التي قام بها الولاة في مجال الري ، كان لدائرة السنية إسهاماتها الواضحة في هذا المجال ، من خلال إنشائها لعدد من السداد ، فضلاً عن إلى الكثير منن القنوات والجداول التي حفرتها أو قامت بكريها ، حيث كان لتلك الإسهامات تأثيراتها الايجابية في تطوير النشاطات الزراعية في العراق ، فعلى سبيل المثال لا الحصر اسند إلى هذه الدائرة مهمة تحكيم عدد من السداد ومنها سدتا المدرة ، والموجة ضمت قضاء الكوت. فيما قامت الدائرة نفسها عام 1892 بتطهير نهر الحسينية .
وفي أعقاب انقطاع المياه عن النجف ، نتيجة لاندثار نهر عبد الغني بفعل عوامل الرياح والرمال ، وعلى اثر شكاوي اهالي النجف بادر قائممقام النجف خير الله افندي ، بمساعدة دائرة السنية بإعادة حفر صدر هذا النهر ، حيث جرى الماء صم جديد إلى النجف.
لكن معاناة أهالي النجف لم تنته إذ سرعان ما تعرض النهر للإهمال فترسبت فيه الرمال وانقطع الماء عن النجف، فندب أهل النجف قائممقام النجف خير الله أفندي إلى حفر نهر عبد الغني يصكون كالمدد له وقد رفع القائممقام الأمر إلى بغداد، فقام الوالي بدوره بالطلب منن استانبول بحفر نهر جديد لمدينة النجف قرب النهر الأول، فصدر الأمر من السلطان بحر ذلك النهر الذي يسمى احياناً بنهر (الحميدية) ، نسبة إلى اسم السلطان عبد الحميد ، وسمى احيانا بنهر (الحيدرية) ، نسبة إلى اسم (حيدر) ، وهو من أسماء الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ، حيث تم الاحتفال بجريان نهر الحميدية في سنة (1311-1312هـ)(1893/1894م) .
كما قامت الدائرة السنية سنة 1312هـ/1894م بشق نهر من هور اب نجم في لواء الديوانية ليروي اراضي الشنافية حيث سمي هذا النهر بنهر السنية .
أما بالنسبة لسدة الهندية فإنها لم تصمد طويلا إذ سرعان ما تعرضت للإهمال بعد نقل ضالوالي سري باشا وتصدعت بعض جوانبها 1314هـ/1896م) ، مما استدعى القيام بإصلاحات بلغت كلفتها 174475 ليرة تركية . لتنهار مرة اخرى على اثر فيضانات سنة 1321هـ/1903م .
ويدخل ضمن اهتمامات الولاة العثمانيين ففي مجال الري جهود والي بغداد عطالله باشات (1314-1317هـ)(1896-1899م) ، ي سنة 1316هـ/1898م تم تشكيل لجنة متخصصة لمراقبة السداد الواقعة في اطراف ولاية بغداد ، وكلفت هذه اللجنة بفحص السداد وبيان ما تحتاج منها إلى الإصلاح والتقوية ، وأشرت اللجنة أعمالها في تشرين الاول سنة 1316هـ/1898م .
كان لوالي بغداد نامق باشا الصغير (1317-1320هـ)(1899-1902م) إسهاماته الواضحة ايضاً في هذا الميدان من خلال تحكيم عدد من السداد القائمة على نهر دجلة . والفرات ، وقد أسهمت هذه الجهود في الحد من الآثار السلبية الناجمة عن فيضانات نهري (دجلة والفرات) ، لاسيما النهر الأخير وتحديداً سنة 1318هـ/1900م .وعلى اثر انقطاع مياه نهر الفرات عن مدينة الديوانية بادر هذا الوالي سنة 1319هـ/1901م إلى الايعاز بحفر نهر الرشادي ، وبذلك حصلت المنطقة مجدداً على المياه اللازمة للري .كما عمل هذا الوالي على إصلاح عدد من القنوات والأنهار، منها نهرا الحلة والزلمية في قضاء الحلة . ونهر الحسينية في كربلاء . ونهر اليوسيفية في سنجق الديوانية . فضلاً عن إنشائه لبعض السداد على نهر (الخالص) المتفرع من نهر (ديالى) والمتشعب إلى (الخالص الغربي) ومنطقة (التحويلة)، وكان الغرض من هذه السداد توزيع الاستحقاق الكافي من المياه على أهالي المناطق المسكونة حولها .
وعلى اثر انهيار سدة العويجة سنة 1319هـ/1907م وانقطاع الماء عن جدول الخالص وما نجم عنه من إتلاف مزروعات تلك المنطقة ، أوعز نامق باشا بإعادة إنشاء هذا السد في السنة نفسها .أما بالنسبة إلى أسرة الهندية التي أخذت بالتدهور السريع على اثر التداعي الجزئي الذي لحق بها بعد فيضان سنة 1321هـ/1903م . حيث تدفقت معظم مياه الفرات إلى شط الهندية مجددا ، مما أدى إلى انخفاض كبير جداً في مياه شط العرب الحلة مخلفا وراءه الدمار والخراب في مناطق الحلة والديوانية والدغارة . لمعالجة المشكلة أوفدت الحكومة العثمانية المهندسين الفرنسي موجل M . Moujel لبناء الاستحكامات اللازمة لسدة الهندية وتعميرها . الأمر الذي أدى إلى ارتفاع منسوب المياه في شط الحلة ، فنتج عن ذلك إحياء مساحات كبيرة من الأراضي بما فيها أراضي السلطات المعروفة بالأراضي السنية .
إلا أن السدة سرعان ما تعرضت للانهيار مرة اخرى ، واصبحت الحالة في شط الحلة اسوأ مما كانت عليه قبل إنشاء السدة . وامام الوضع المتردي الذي امست عليه السدة استقدمت الحكومة العثمانية خبير الري الفرنسي شوشود سنة 1323هـ/1905م ، فقام بدراسة المشكلة ثم قدم تقريره الفني المتضمن تصوراته للمشكلة ومعالجتها ، إلا أن تلك المقترحات ونتيجة للإهمال والتسيب الإداري العثماني. لم تأخذ طريقها للتنفيذ وبالتالي فإنها بقيت جسراً على ورق . مما نجم عنه بقاء مناطق مهمة من العراق تحت وطأة الظروف الطبيعية المتقلبة.
وفي سنة 1324هـ/1906م انتبذت الحكومة العثمانية خبير الري (ردي كونيية) لدراسة إمكانية بناء سدة هندية ثانية(). ويبدو أنه لم ينجح في وضع حد للمشكلة بديل استمرار الوضع المتدهور للشدة على ما هو عليه سنة 1326هـ/1908م عندما عين أبو بكر حازم بك (1907-1908م)(1325-1326هـ) والياً لبغداد ، ومن ضمن الاعمال التي قام بها في مجال الري إعادة بنائه لسد (الحويرة) في قضاء الدليم . وسدة الكنعانية (السرية) الذي كان قد تعرض للانكسار على اثر فيضان سنة 1325هـ/1907م حيث وصل خراب السدة إلى الحد الذي كادت فيه أن تأخذ جميع ماء الفرات ، مما أدى إلى حرمان مساحات واسعة من الأراضي الزراعية من الماء حتى قامت دائرة السنية بالاتصال بالعاصمة (استانبول) ، بحكم كون معظم تلك الأراضي هي ملك لهذه الدائرة ، فاصدر السلطان عبد الحميد الثاني أمراً سلطانياً بتحكيم سدة الكنعانية (السرية) بأية صورة كانت ، حتى أن الوالي المذكور اشرف بنفسه على انجاز البناء الذي وصلت تكاليف انجازه إلى 26 ألف ليرة .
وتولت دائرة السنية ترصين عدد من السداد وتحكيمها التي تقع ضم أراضيها فعلى اثر فيضان نهر الفرات سنة 1325هـ/1907م ، تهدمت عدد من السداد منها سدة العبيدية ، وسد البو ذياب في قضاء الدليم ، من نهر العزيزية الذي تملكه دائرة السنية ، وسد الفدعم في قضاء الجزيرة ، وسد البو طيبان ، وسد الترياكية في قضاء الشامية . إلا أن ما جرى في لواء كربلاء لم يكن من الممكن السيطرة عليه فقد انكسر جزء من صدر قناة الإسكندرية ، التي تملكها دائرة السنية ، وهو الجزء القريب من المقام المعروف بمقام الامام الخضر ، فطفح الماء على مزارع الإسكندرية واغرقها ، كما اغرق مزارع دائرة السنية في المسيب ، فضلاً عن اقطاع قسم من طريق بغداد –كربلاء ، ولم تنفع أعمال التحكيم والتقوية في سد اللايح ، وسد ابي صخوب الكائن داخل قضاء الهندية ، فعلى اثر تدفق الماء عليها انهارا ، ولم يتمكن من تعميرها ، حتى أن السداد القوية المحكمة في كربلاء تضعضعت ايضاً ، خاصة سد اللايح ، والكرب ، وخير الدين التي انهارت من اساسها ، فاغرق الماء جميع الاراضي السنية فضلاً عن املاك الاهالي في تلك المنطقة مما نجم عنه خسائر عظيمة .
وفي الوقت نفسه تشكلت لجنة أسندت إليها مهمة اعادة تحكيم السداد المنكسر في ضواحي بغداد وتعميرها وقد ضمت في عضويتها قائد الجندرمة مسعود بك ، ووكيل محاسب الاوقاف عبد الجبار افندي ، ورئيس البلدية عبد الرحمن آل الحيدري… وآخرين .
وكانت دائرة السنية قد خصصت سنة 1326هـ/1908م صرف مبلغ 12الف ليرة لتحويل صدر قناة المحمودية لتكون نهراً دائماً يصل الفرات بدجلة ، بحيث تمر فيه السفن والبواخر النهرية ، علاوة على الفوائد الناجمة عن اقامة مثل هذا المشروع من توسيع لرقعة الاراضي المزروعة ، وتوسيع التجارة ، واعمار ناحية المحمودية ، إلا أن هذا المشروع لم يتم تنفيذه ، لأسباب غير معروفة . فضلاً عن ذلك صدرت الادارة السنية بانشاء سدة الهندية من جديد وبتخصيص مبلغ (1300) الف ليرة لاعادة البناء ، ولما كان إنشاء هذه السدة يستغرق مدة طويلة قد تصل إلى ثلاث سنوات . فقد كانت هناك حاجة ماسة لاتخاذ تدابير عاجلة ومؤقتة لتخليص قضاء الحلة من العطش ، وتوفير مياه الري اللازمة للزراعة ، لذلك اتخذت الإجراءات اللازمة لإنشاء سد مؤقت من البردي بشرط استناده إلى سد (الهندية) القديم وقد خصص لهذا الغرض ، (5 آلاف ليرة) .
ولتحقيق الغرض نفسه ، ابتداء العمل بإعادة حفر هور ابن نجم في قضاء الشامية التابع للواء الديوانية . واتضح فيما بعد أن تلك الأعمال كانت بلا طائل إذ أنها لم تؤد إلى نتيجة تذكر .
ولاشك أن الخراب الذي أصاب سدة الهندية بعد سنة 1326هـ/1908م قد الحق أضراراً بمجمل النشاطات في الحلة ، لاسيما الزراعية منها ، والتي أثرت بدورها في المستوى المعيشي للسكان وفي واردات الخزينة ففي سنة 1327هـ/1909م بلغ نقصان تلك الواردات نسبة كبيرة تزيد على النصف مقارنة بالأعوام السابقة إذ تدنى مقدار الواردات إلى 41317 ليرة بعد أن كانت سنة 1326هـ/ 11908م (93431) ليرة . وقد ألغى نائب لواء الديوانية في مجلس المبعوثات (مصطفى الواعظ) ومن خلال تقريره المقدم إلى المجلس في دورته لسنة 1327هـ/1909م بمسؤولية ذلك على الموظفين منهم فضلاً عن عدم كفاءتهم الفنية لم يأخذوا بتوصيات المهندسين الذين اشرفوا على بناء السد بخصوص ضرورة صيانة وإدامة السد باستمرار، ولعل بعد المسافة بين الديوانية وموقع ذلك السد، وضعف الشعور بالمسؤولية ، كان في مقدمة الأسباب التي جعلت الموظفين العثمانيين يتقاعسون عن تأدية واجباتهم بهذا الخصوص . ونتيجة لذلك حصلت الأضرار الجسيمة في الحقول والمزارع وباقي النشاطات الاقتصادية بسبب تناقص مياه الفرات ابتداء من الحلة وحتى السماوة جنوباً ، الأمر الذي انعكس سلباً على واردات لخزينة المركزية في لواء الديوانية .
وجدت الدولة العثمانية أن مشكلة المياه في العراق بدأت تزداد سوءاً ، وتترتب عليها مشاكل اقتصادية واجتماعية ، ولمعالجة الموقف المتأزم ، انتدبت الحكومة العثمانية مهندس الري الانكليزي وليم ويلكوكس W . Willcocks ليقوم بدراسة مشكلة الري بشكل ميداني واقتراح الحلول الناتجة لمعالجة هذه المشكلة واعداد التصاميم الفنية لإحياء مشاريع الري في العراق ، فقام بزيارة العراق سنة 1326هـ/1908م وبرفقته (12) مهندساً مع عدد من المساحين وبعد أن مكث زهاء السنتين والنصف أنجز خلالها التحريات الفنية اللازمة قدم إلى وزارة الأشغال العامة (نظارة النافعة) تقريراً مفصلاً ضمنه كل آرائه وأفكاره في معالجة مشاكل الري ، وأرفق التقرير المذكور (84) خارطة وتصميمات للمشاريع التي يتوقف عليها إعمار الأراضي وإنعاش البلاد وتخليصها من أخطار الفيضانات.